مضى عامان على رحيل والدنا الكاتب والصحفي الفلسطيني فيصل حوراني. ومضى ستة وسبعون عاماً على ترحيله من قرية المسمية، مسقط رأسه في شمال شرق غزة. نحيي الذكرى الثانية لرحيل والدنا على وقع نكبة جديدة يتكبدها شعبنا في غزة اليوم. تتكرر اليوم المجازر التي هجرت والدنا قسرياً من فلسطين في العام 1948 إبادة جماعية، يشهدها العالم بأسره في بث حي للجريمة. نطلق هذا الموقع ليس احياءً لذكرى وفاة فيصل حوراني فقط، وانما لذكرى تهجيره القسري هو وشعبه من فلسطين التاريخية، أيضاً. التهجير المستمر حتى يومنا هذا.
يجمع الموقع ما بعثره الشتات في منافي فيصل حوراني في المنطقة العربية وأوروبا، من كتابات ومقالات وأبحاث وسيرة حياة، في مكان واحد افتراضي، الى حين. يسعى هذا الموقع الى حفظ نتاج رحلة مناضل قضى عمره مهموماً في توثيق ذاكرة أراد المحتل الاسرائيلي محو أثرها. لا أثر اليوم لقرية المسمية التي هجرمنها والدنا طفلاً في التاسعة من عمره، سوى شجرة جميزة وحيدة وبئر مطمور في أرض آلت الى خرابة. كان البئر يروي قرية تعج بحياة، تعرفنا على تفاصيلها وشخوصها من وصف والدنا لها في الجزء الأول من شهادته (دروب المنفى: الوطن في الذاكرة). ثبتت شهادة فيصل حوراني في ذاكرتنا الجمعية وجود القرية بأفراحها وأتراحها ونواقصها ومشاريعها وزراعتها وسفريات أهلها الى دمشق والقدس. وأصبح هذا الوصف وثيقة لحياة ممتدة في قرية فلسطينية، ربما أقوى من وثائق ملكية الأرض الصادرة عن الانتداب البريطاني. لم يكن هم والدنا استعادة الأملاك لقيمتها المادية، بل امتلاك السردية الفلسطينية للخروج من مأزق الضحية الذي حشرنا فيه المحتل حينها، والذي مازلنا نقاوم اعادة زجنا فيه اليوم.
لم يعلق فيصل حوراني في زاوية البكاء على أطلال المسمية الصغرى، بل انفتح على حيوات مدن منفاه الكبرى بشغف من أحب الحياة، وآمن بحق شعبه المنكوب فيها وفي العودة الى وطنه. من غزة الى دمشق الى موسكو الى بيروت الى نيقوسيا الى فيننا، عالج والدنا مرارة الجراح المتكررة ببلسم السخرية، وكان بارعاً فيها، حاذقاً في تغليب العقل والفكر والتحليل المنطقي على الانفعال العاطفي المشروع للضحية. هكذا، وفقط هكذا استطاع هو وجيله من رواد العمل السياسي الفلسطيني، الوقوف على أقدامهم مجدداً والمضي قدماً، بعد كل سقوط. وعندما اعتزل العمل السياسي المباشر، لم يكتف بالتفرغ لتدوين شهادته، بل شجع مجايليه على تدوين شهاداتهم أيضاً، وعرض على من لم يحترف الكتابة منهم القيام بتحرير شهادته لترى النور. تجاوز والدنا كل احباط جديد لحراك شعبه التحرري ببث الحياة في شهادة جديدة ومتابعة نتاج الجيل الشاب الفلسطيني والاشتباك معه في ندوات وجلسات، حرص على المشاركة فيها أثناء زياراته المتكررة للوطن.
لازم هم الكتابة والدنا حتى آخر أيام حياته. تحدث عن توقه لكتابة روايته القادمة وهوعلى سرير المرض، يعارك كوابيس عمر قضاه في كبح الخوف من خطر الزوال. ترجل فيصل حوراني قبل أن يكمل كتابة كوابيسه. في غزة أيضاً، منذ عام، وفي تزامن مؤثر مع الذكرى الأولى لوفاة والدنا، توقف عن الخفقان قلب طفل في الخامسة، لم يحتمل هول أصوات القصف الاسرائيلي من حوله. إنها الأصوات ذاتها التي هزت قلب فيصل حوراني في طريق الهجرة من المسمية الى غزة منذ ستة وسبعين عاماً. في غزة اليوم، توقفت عن الخفقان قلوب عشرات آلاف الأطفال ممن تلاحقهم قذائف المحتل الاسرائيلي في بحث هزيل عن صورة نصر. حينها كان لوالدنا وعائلته ملجأً في سوريا ساروا نحوه. اليوم ليس لأطفال غزة المحاصرة أي ملجأ. توقف القلب عن الخقان.
نفكر كثيراً بوالدنا في هذه الأيام. نفتقد لصلابته وقدرته على سندنا في لحظات الألم الشديد. نفتقد لبصيرته وفكره النقدي وتحليله السياسي وقراءته الواقعية والاستشرافية للمشهد الفلسطيني. نتساءل عن رأيه بالأحداث لو كان حياً. قاوم والدنا هول المأساة بالانخراط بالفعل السياسي والكتابة. ترك لنا ارثاً من الشهادات والمقالات الصحفية والأبحاث ننهل منها نحن والأجيال القادمة لتستمرالحكاية. ولأنه أوصانا بالبحث عن بقية الحكاية وعدم التهاون في سردها، فقد دعونا عدداً من أصدقائه وزملائه لكتابة "رسالة الى فيصل" يطلعونه فيها على ما جرى في السنتين الأخيرتين منذ رحيله عنا، يشاركونه رؤيتهم للأحداث التي تعصف بمسيرة شعبنا النضالية: حزنهم، ألمهم، آمالهم. ستجدون نصوص الرسائل في صفحة "رسالة الى فيصل" على هذا الموقع. والدعوة للمساهمة "برسالة الى فيصل" مفتوحة لجميع المهتمين.
هذا الموقع ليس تخليداً لذكرى والدنا فقط، ولا بكاءً على نكبتنا، بل هو دعوة للاستمرار في بث الحياة في سرديتنا الفلسطينية، ختم بها فيصل حوراني خماسيته دروب المنفى:
"لقد أسمعتك جل ما عندي...فدعني أسمع منك، بل دعني أرى فعلك أيضاً. ان بقية الحكاية عندك."
قد لا يزول الاحتلال بالكتابة وحدها، لكنه لن يزول دونها أيضاً.
لمى، لينا، ليلى حوراني