الرسائل المنشورة على صفحة "رسالة الى فيصل" هي استجابة لدعوة وجهها هذا الموقع الى عدد من أصدقاء وزملاء فيصل حوراني، وقد استجاب كثير منهم فيما تعذرت مساهمة آخرين. والدعوة ما زالت مفتوحة لكل من يرغب في المساهمة والتقيد بسياق الرسالة وهي: محاكاة مع فيصل من منظور ما نعيشه اليوم في واقعنا الفلسطيني. لا تقتصر الدعوة على مساهمات من فلسطينيين، بل هي مفتوحة لكل الجنسيات ولكل المهتمين بمحاكاة فيصل حوراني سواء احترفوا الكتابة أم لا. نشجع خاصة مساهمة النساء وجيل الشباب. فيما يلي نص الدعوة المرسلة:
رسالة الى فيصل حوراني
نقترب من موعد الذكرى السنوية الثانية لوفاة والدنا الكاتب والصحفي فيصل حوراني، على وقع نكبة وإبادة جديدة يتعرض لها شعبنا في غزة، على مرأى ومسمع من العالم. نفكر كثيراً بفيصل في هذه الأيام. نفتقد لبصيرته وفكره النقدي وتحليله السياسي وقراءته الواقعية والاستشرافية للمشهد الفلسطيني. نتساءل عن رأيه بالأحداث لو كان حياً. ما قد تكون قراءة الرجل الذي ساهم في تأسيس الفكر السياسي الفلسطيني الحديث، وتصدى بجرأة للدفاع عن حل الدولتين القائم على الشرعية الدولية المتضمنة حق العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني. دافع عن حق الفلسطينيين في اتباع كافة أشكال النضال لنيل حقوقهم، بما فيها النضال السلمي القائم على قراءة دقيقة لموازين القوى في العالم وموقع النضال من هذه الموازين في كل مرحلة من مراحل نضال الشعب الفلسطيني. بلور رؤية فريدة تجمع بين مرونة الواقعية السياسية والثبات على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني والمعترف بها دولياً. فعل ذلك في زمن هيمنت فيه شعارات إعلاء صوت السلاح على كل أشكال المقاومة الأخرى. وفعل ذلك أيضاً، وبنفس الاندفاع في زمن طغت فيه على القرار السياسي الفلسطيني واقعية سياسية هجينة قائمة على "القبول بالحل الممكن"، وان كان دون ضمانات لنيل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني.
اذا كنتم مثلنا تفتقدون للتحاور مع فيصل حول مآلات أحوالنا اليوم، ندعوكم لكتابة رسالة الى فيصل تطرحون فيها الأسئلة التي تشغل بالكم، تناقشونه في النهج الذي كان من مؤسسيه وسارعليه بثبات طيلة حياته، تطلعونه على ما جرى في السنتين الأخيرتين منذ رحيله عنا، تشاركونه رؤيتكم للأحداث التي تعصف بمسيرة شعبنا النضالية: حزنكم، ألمكم، آمالكم. سنقوم بنشر الرسائل على الموقع المخصص لمسيرة فيصل حوراني الذي سنطلقه في الذكرى الثانية لوفاته يوم 12 أيار 2024. يفضل أن لا يزيد حجم الرسالة عن 2000 كلمة.
الرجاء بعث الرسالة بتاريخ أقصاه 25 نيسان (أبريل) 2024 الى العنوان البريدي التالي:
Lulu.hourani@gmail.com
مع خالص الشكر والتقدير.
لمى ولينا وليلى حوراني
بنات المرحوم.
رسالة الى فيصل – عماد أبو حطب
؟ ومحوراني مع نكبة وإبادة جديدة يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة واشتداد حملات الاستيطان في الضفة الغربية ، مما يطرح تساؤلا إفتراضيا: لو كان فيصل بيننا، كيف يمكنه أن يجيب على تساؤلات الراهن سياسياً؟ وهو صاحب البصيرة والفكر النقدي والتحليل السياسي، القائم على الواقعية والإستشرافية للمشهد الفلسطيني، خاصة مع احتضار أوسلو وتراجع إمكانية تطبيق حل الدولتين على الأرض نتيجة لتكثيف الإستيطان، وتعنت حكومة اليمين الفاشي، ورفضها لأي حل قائم على الشرعية الدولية المتضمنة حق العودة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني.
لقد كان فيصل من أشد المدافعين عن هذا الحل و في الوقت نفسه كان مدافعاً عن حق الفلسطينيين في اتباع كافة أشكال النضال لنيل حقوقهم. لهذا أتوجه له بالأسئلة التالية والتي أعتقد انه أجاب عن جزء كبير منها عبر تراثه الفكري الغني:
كيف ترى المخرج الممكن لوقف حرب الإبادة في غزة مع فشل التوصل إلى أي وقف لاطلاق النار والإنحياز الأميركي السافر للحكومة الإسرائيلية؟
من جديد، وبعد طوفان الأقصى، يعلو صوت السلاح على أصوات الحل السلمي، كيف يمكن تقييم نتائج الطوفان على غزة أولاً وعلى القضية الفلسطينية؟
هل تتوقع إنتهاء حكم حماس لغزة؟ وإستكمالا لهذا، ما هي توقعاتك لدور حماس والجهاد المستقبلي في عموم المشهد الفلسطيني؟
هل تتوقع أن تشمل إرتدادت إنهاء وجود حماس والجهاد في غزة إلى إنهاء لدور سلطة رام الله لاحقا وسط دعوات اليمين المتطرف للسيطرة على مجمل الأراضي المحتلة عام ٦٧؟
ماذا بقي من حل أوسلو وأية آفاق ممكنة لابقاء حل الدولتين؟
هل عدنا إلى المربع الأول: طغيان ما ندعوه بالواقعية السياسية الهجينة القائمة على القبول بما هو ممكن دون أية ضمانات بنيل حق الشعب الفلسطيني بالحرية والإستقلال؟
عن أي حركة وطنية نتحدث اليوم أمام ما تبقى من فتات لها في ظل أوسلو والاحتراب والإنقسام بين غزة ورام الله؟
نحن أمام إنفضاض رسمي عربي وحتى دولي عن دعم نضال الشعب الفلسطيني وسيادة لغة السلام الإبراهيمي على معظمها، هل من أفق لإعادة الحياة إلى هذا الدور دون تعويل كبير عليه؟
كنت من الداعين إلى تطوير مفهوم المقاومة الشعبية مقابل تقديس السلاح أو الرهان على سياسة أخذ ما يمكن أخذه، هل من أفق أمام هذه المقاومة الشعبية وسط تغول الإستيطان وتسليح المستوطنين؟. منذ أوسلو تحول الحل المرحلي إلى حل نهائي وغابت قضايا اللاجئين والقدس والدولة لصالح سلطة أشبه بالحكم الذاتي تدار من قبل الإحتلال، هل بتنا في مرحلة إنهاء أي حديث جدي عن الحل النهائي؟
هل يمكن القول ان حل الدولتين قد قبر بيد إسرائيل ومراوغات واشنطن؟ وهل على الفكر السياسي الفلسطيني العودة إلى طرح حل الدولة الواحدة لكافة قاطنيها كحل نهائي؟
عزيزنا فيصل
سلام عليك في الخالدين
سلام عليك من غزة النازفة من رملها المحترق وبحرها الباكي وأهلها الضحايا
سلام عليك في ذكراك المتجددة فينا
في ذكرى رحيلك نفتقدك كما لم نفتقد أحدا من قبل. نفتقدك وغزة تحترق، غزة التي تحبها وتعشق ترابها، غزة التي شهدت جولات وصولات سياسية وفكرية كنت نجمها ومحركها، كانت كلما وطأت قدماك أرضها تنقلب إلى ورشة عمل صاخبة، خلية نحل نشطة، ندوات وجلسات وحوارات وسهرات. في ذكرى رحيلك، نشعر أننا لسنا بخير، غزة تنطفئ أنوارها، وتخبو نيرانها، غزة تذهب في التيه والضياع في المجهول ونحن نراقب ضياعها بعيون مفتوحة ووجوه بلهاء، نصمت ونحن نستمع إلى صرخات استغاثتها ولا من مجيب فهل تسمعها يا فيصل هناك حيث أنت؟ هل تشاهد حاراتها التي تحولت إلى خرائب؟ دمروا منظومات الحياة كافة وجعلوا ممن تبقى فيها "زومبي" طرائد للجوع والفزع والعقلية العسكرية الفاشية .. أين أنت يا فيصل لتنصحنا ماذا نفعل؟ ماذا كنت تقول لنا وأنت تتصل أثناء كل الحروب التي اندلعت هنا؟ تلك حروب تبدو لنا الآن مجرد نزهة، برهة من زمن الوحوش العطشى للدماء، كنت دائم السؤال عن الأحوال والاطمئنان على الأصدقاء، رغم فارق السن والتجربة كنت تشعرنا بأنك صديق مقرب وحميم لكل منا، كنت تنسج من اتصالاتك معرفة بتفاصيل المشهد الفلسطيني اليومي، تسأل باهتمام وتدقق في كل ما يلقى على سمعك لتواصل بحثك عن الحقيقة ثم تلقي على أسماعنا من خبرتك وعقلك الجدلي ما يعيننا على فهم ما يجري والتعاطي معه كما يجب أن يتعاطى معه مثقف فلسطيني مشتبك يمتلك فكرا سياسيا نيرا وثوريا وعقلانيا. أنت صاحب الفكر السياسي المنقسم إلى تجريبية بائسة وعدمية أكثر بؤسا وعقلانية غائبة طوال الوقت. غزة لم تعد بخير يا صديق الكل. تكاد تلحق بأخواتها على ساحل فلسطين: يافا وحيفا والمجدل. كنا نحسب أننا نحمي الكل وندافع عن الجميع ونتبنى قضايا شعبنا في كل مكان فإذا بنا نضيع في العجز والخذلان. لم نحمها كما افترضنا ولم نحافظ عليها كما كان يجب علينا ... غزة تنتقل من الحياة في ظل الحصار إلى حياة في دروب منفى جديد.. أرادوا أن يتخلصوا منها، يحلوا عقدتها منذ 1953، بن غوريون ومعركة يوآف، لأنها كانت سفينة نوح الفلسطينية، خندق المقاومة المتقدم، لأنها شكلت شوكة في خاصرتهم، اصطبروا عليها طويلا حتى أتت اللحظة المناسبة للانقضاض، ويبدو أننا وفرنا الغطاء والذريعة في ظل موازين قوى عسكرية وأخلاقية مختلة وعالم ظالم غاشم، في ظل عجز الأشقاء، عربا وعجما، وربما في ظل تواطؤ وجبن بعضنا كذلك. "المحاصرون" في غزة، يا فيصل، باتوا طرائد للطائرات والمدافع، في خيم بعد 75 سنة من نكبتنا الأولى.. فما أحوجنا إلى قراءتك النقدية، مرة أخرى، لمسيرة المقاومة الفلسطينية، لطريقة تفكيرنا السياسي، مفتشا عن جذور رفضنا للواقع وانكارنا له ..... لا زلنا نكابر يا فيصل، نعجز عن مطابقة العقل والكون، نخجل من وضع الضحية ونبالغ في قوتنا تعويضا نفسيا كأننا قبيلة ولسنا شعبا/أمة يدفعنا الثأر والشعور بالعار؛ لا شعبا تحركه مصالحه الوطنية العليا التي هي محل إجماع وطني وتلتمس الفصائل طرقا وأساليب عقلانية ومجربة لتحقيقها، فلا الوسيلة تصبح هدفا، ولا الهدف يصبح شعارا مقدسا. لكم كنت أستأنس بسماع صوتك القادم من الشمال أو من النصف الآخر من البدن الفلسطيني، وصوت القذائف من حولنا، شرق الشجاعية وعلى تلة المنطار، ووسط دير البلح، في الحروب السابقة، ولكم استفدت، كما استفاد غيري، من شروحاتك وتفسيراتك وتعليقاتك.. اليوم، تمر ذكرى وفاتك الثانية، ونحن أحوج ما نكون لاتصالك وتحليلاتك وبصيرتك الثاقبة.
تذكر يا عزيزنا فيصل لكم عبرنا لك عن أشواقنا ورغبتنا في عودتك إلى غزة منذ الانقلاب، وأنا، وبالتأكيد غيري من الأصدقاء، لطالما حاولنا معك بالرجاء والطلب أن تأتي إلى غزة ولو لمرة واحدة، عند كل مفترق: حوارات القاهرة، جولات الصراع المتتالية، اندلاع أحداث الربيع العربي، لنتحدث ونتداول الأفكار ونتبادل المشاعر والرهانات كما كنا نفعل دوما.. كنت دائما أشعر بصدق مشاعرك وسداد رأيك، وأكثر من ذلك رغبتك في معرفة المزيد ممن تتصل بهم؛ نشعر بمدى النهم المعرفي، عند مفكر وصحفي وفلسطيني مشتبك، يفعل وينفعل بالأحداث ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
اليوم يا فيصل، أشرعوا "سيوفهم الحديدية" الحاقدة والمسمومة في وجه سيف القدس الذي ارادوه منثلما، فما وهنت عزائمهم عن مواصلة المحاولة حتى انثلم. قلت، في معرض توثيقك للألم والوجع الفلسطيني، بأن البطش الذي تعرضنا له جيلا بعد جيل تزداد قسوته باطراد. في غزة اختبرنا بطشا غير مسبوق، وغير مبرر، من احتلال غاشم وظالم، لكنا لم ننتبه لسوء الحظ أننا برد فعل غير مدروس، إنما نخدش نرجسية عدو مدجج بالحقد التوراتي والقوة الفرط صوتية، والاحساس العالي بالتفوق العرقي والعنصري، في زمن حكومة فاشية تتبنى ما يسمى ببرنامج الحسم المأخوذ عن يهوشع بين نون وهو يحدد مصائر الأغيار على هذه الأرض ويخيرهم بين القتل والاذعان والتهجير!
لكم نحتاج حكمتك وعصارة خبرتك اليوم، وأنت الداعي لتدبر سبل البقاء بالرغم من البطش ... كنقطة انطلاق لتجنب الإبادة! كنت تعلم أنهم يتربصون بنا، يتحينون الفرصة ليستكملوا ما بدأوه ... "جئت لأستكمل المرحلة الثانية من المشروع الصهيوني" هكذا أعلن شارون فور انتخابه رئيسا لوزرائهم متبنيا خطة الانفصال أو الانسحاب الأحادي مؤسسا لأكبر رحلة تيه لنا بعد النكبة فأوقعنا في مصيدة ...اعتقدنا واهمين أننا أقوياء ومنتصرين فإذا بنا نجابه في غضون 20 عاما حربا تستهدف اقتلاعنا وطردنا، كي وعينا ونزع ملكيتنا ...هذا ما تفعله سيوفهم الحديدية في غزة تقطيعا وسلخا وتدميرا، إلقاء حمم الحديد والنار والاكثار من الركام والرماد ..وهم يفعلون بنا ذلك، إذا بهم ينجحون في ذر الرماد في عيون 12 مليون فلسطيني؛ ينتظر كل منهم أن تحقق له غزة ما يسعى إليه: أتدري يا فيصل ما المفارقة المؤلمة؟ نشن حربا بهذا الجبروت ولا نضع لها أهدافا سياسية ممكنة ومنطقية.. نترك كل واحد من أبناء شعبنا والشعوب المجاورة، أشقاء وجيران، أن يتخير له هدفا خاصا به: حماية المسرى، إطلاق سراح الأسرى، إعادة لاجئي 48، الدفاع عن الحرائر، بحياة الله يا غزة يالله! ثم لا نجد من ينتصر لنا.. ويبالغ البعض في الإنجازات والانتصارات وغزة تواصل رحلة ضياعها على طريق يافا. نعلم أنك، لو كنت وسطنا اليوم، لعلى صوتك بالنقد، لطالبت ببعض التعقل، لذهبت تقابل الرئيس، لدعوت قادة الفصائل إلى لقاء، لذكّرت بتجربة حرب بيروت 82، لنوهت إلى تكتيك لينين "خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام"، كنت بالتأكيد وقفت ضد تزييف الوعي من طرفنا، وكي الوعي من طرف عدونا، ولعلمتنا جميعا أن "الثبات ليس طبعاً، ليس جينة يملكها أحد دون سواه ويورثها لنسله، بل هو نتاج ظروف، نتاج تدرب"، تعال وانظر يا فيصل تُركنا دون جبهة داخلية، فريسة للقهر والهجمات وارتفاع الأسعار والاستغلال الجنسي والجوع وجشع تجار الحرب، ..بعض من أصحابك يا فيصل ممن اعتبرناهم نخبا مثقفة، سافروا بعيدا يبحثون عن جنتهم خارج جحيم غزة بعد أن ساهموا في تزييف الوعي ونزع الملكية ..للأسف هؤلاء لا يشبهونك أنت ورعيل النضال الأول ..ولكني اطمئنك يا صديقي، فما نوهت إليه في "حياة حصار" (وهكذا، يوما إثر يوم، سنة إثر سنة، عقدا إثر عقد، ابتكر الفلسطينيون وسائلهم لتدبر استمرار البقاء تحت كل ظرف وتجنب الإبادة. اتصلت المعاناة، فاتصلت القدرة على تدبر أي شيء من أي شيء) ثبتت صحته في حالة غزة، فقراء غزة، ضحايا البطش والعدوان، الذين بقوا صامدين يتدبرون أمرهم، وهم على وعي فطري (لا تنظير المنظرين) بأن هذا ليس لأن فيهم ما يميزهم عن سواهم، بل لأن ظرفهم اختلف، ولأن الذين نهبوا وطنهم استهدفوا إلغاء وجودهم، فصار الهدف هو الحفاظ على الوجود، مهما ثقل الثمن، ورفض الإلغاء، هؤلاء الفقراء قرروا الثبات والبقاء وليخسأ الأعداء والمتخاذلون.
نعم يا فيصل، للأسف، في اليوم التالي للحرب برزت للوجود ظاهرة مقلقة تعكس مدى تواطؤ بعض النخب وانحرافها عن الأجندة والهروب مما نظروا له طويلا فانفصلوا عن الجمهور البائس، واستغلوا أموالا جمعها بعضهم دون وجه حق، أو علاقات بنوها على حساب القضية وهموم الشعب، سياسيون وأثرياء وقادة مجتمع مدني وأكاديميون ومثقفون تركوا غزة خلفهم تنزف. تزف قتلاها وتلعق جراحها ليحولها مرة أخرى إلى مادة للقول والخطابة ونظم الشعر، أو موضوعا لمزيد من الشقاق السياسي البيزنطي، وراحوا في عواصم البراح والدعة يثرثرون فيما لا يغني ولا يسمن من جوع النازحين، ولا يحمي من فزع أطفالنا، ناهيك عن كسر شوكة الاحتلال وصده عن البلاد والعباد وقد اثخنوها وأكثروا فيها الفساد!
نحن في أمس الحاجة إلى شجاعتك وجرأتك في قول الحقيقة في التعبير عن الرأي المخالف، في القول الصريح للمخطئ أنت مخطئ. في ممارسة النقد السياسي والدعوة إلى تصويب البوصلة والتنبيه لمخاطر بعض القرارات والأفعال. هناك يا فيصل من يمنعنا من النقد ويريدنا أن نرى ما يرى السلطان، الفرعون السياسي أو الديني، وأنت علمتنا أن المثقف المشتبك حقا لا يقول ما تمليه عليه رقابة المكان أو المكانة أو النفاق السياسي. أنت أثبت أن "المقاومة" ليست عجلا مقدسا، ليست فعلا لا يقبل النقد، الحرب على غزة، ومع غيبة موسى، استطاع السامري أن يخدعنا فنعيد صناعة العجل لنعبده من دون الحقيقة ووعي الحقيقة وفهم الواقع. نتمنى عودة الوعي، عودة الروح، فابعث فينا من روحك المتوثبة وعقلك الجدلي ما يعيد الحياة إلى شرايين فكرنا المتكلس عند ثنائية الجمع بين السلطة والمقاومة، فلا سلطة رشيدة أصبنا (رام الله فقاعة)، ولا مقاومة مفيدة حققنا (غزة دمل)، فكانتا عبئا على القضية والمشروع والشعب. وأيضا نحن في حاجة إلى أمثالك كي نخرج من ثنائية أخرى "الاعتدال والممانعة" في إقليم رخو، ملتبس يشهد حرب الحل ضد الكل؛ امبرياليات صغرى وكبرى تتصارع على تحقيق النفوذ وكسب الهيمنة على ثروات عرب غافلين، عرب سادرين في غيهم وغيابهم، والورقة الفلسطينية تستخدم على الناحيتين: حرب طوائف أجهزت على ما تبقى من جيوش العرب، وأحالت صراع الأمة إلى صراع بين مليشيات طائفية عاجزة، تقتل بعضها بعضا، بينما تنهب ثروات الأمة، نعم في غياب أمثالك يا فيصل اُستخدمت فلسطين وشيوخها ومفكريها "اليساريين والقومجيين والاسلامويين" ورقة رابحة في معارك أبعدتنا وأبعدتهم عن فلسطين، وجعلت منها ضحية مرة أخرى إلى أن وصلت نكبتها الثالثة. جرى أسطرة غزة، النموذج الهش، التركيب السكاني الغريب على هامش الإنتاج وهامش المدينة (اعتبرها الناس غزة مجرد خان لإقامة مؤقتة). روجت فضائيتا الجزيرة والميادين للمقاومة، ولفلسطين وللدين وقد اجتمعا على نحو ما في غزة، ثلاثة أقانيم مقدسة في الذهن العربي والإسلامي، اجتمعت على نحو مفتعل، زائف، شكلي حتى صدقنا وصدق العالم أننا قوة عظمى؛ سوف تنوب عن الشعب والأمة في تحقيق كل الأهداف التي عجزت عن تحقيقها دول وجيوش وتحالفات.
وبعد يا صديقنا الرائع، يبدو أنني أطلت وأسهبت، وعذري فذلك أنك خلطة عجيبة كما وصفك بعض الأصدقاء من مهارات وسمات "روائي وباحث ومفكر سياسي" لديه قدرة فائقة على الاقناع والمؤانسة المحببة. نفتقدك اليوم بوصفك أحد أهم نماذج المثقف الشامل الذي ارتكز مشروعه السياسي والأدبي على ترسيخ وتدعيم وتأصيل الذاكرة الفلسطينية كشرط أساسي ليتمكن الفلسطينيون من الاستمرار في الكفاح والعودة إلى بلادهم.
وإذا كنت في هذه اللحظات المظلمات غائبا بجسدك، فستظل حاضرا دائما بنتاجك الفكري والسياسي والأدبي، حاضرا بمدى حاجتنا إليك والعودة إلى تراثك والنهل من بئرك التي لا تنضب فعالية وتألقا وعطاء. أنت يا كاتب سيرة الشقاء الفلسطيني تعال واكتبنا من جديد.. ارسم بقلمك دروبا جديدة لمنفى "الغزازوة" وأنت منهم، وقد أحبوك وأحببتهم، وقد ضلت بهم الطريق، تعال ارفع سبابتك متهما، ناقدا سياسيا شجاعا وشرسا كما يصفك صقر أبو فخر بتميزك عن الآخرين "بشجاعتك الأدبية والسياسية، ونقدك لفكر المقاومة والفكر السياسي الفلسطيني وبنية منظمة التحرير والفصائل الأخرى وطريقة تفكيرها".
تعال يا صاحب "بئر الشوم" و"دروب المنفى"، أيها الساخر صاحب النكتة والفكاهة المحببة والقاسية أحيانا، التقط هاتفك المحمول، أو اطلب من لمى تتصل بنا، نحن يتامى غزة ممن افتقدوك وأحسوا بغيابك هذه الأيام العصيبة، حاولوا أن يقلدوك فما فعلوا، وحاولوا أن يقولوا مثل قولك فما نجحوا.. نحن بانتظار رنة الهاتف يا فيصل قبل أن يجتاح المغول رفح ويعدموا ملكها الهارب "حانو". تعال لنشهد فصلا جديدا من النكبة المستمرة!
انعم بالسلام في رقدتك الأبدية واتركنا يا فيصل نعافر ما تبقى من تراب غزة، نكابد آلام "دروب منفانا" ونزوحنا المهول، ونواصل، ما استطعنا، سيرتك الملهمة في الصبر والعطاء والابداعِ وحسن التدبر والاستغناء والبدء من جديد!
تلميذك
تيسير محيسن
غزة 26 إبريل 2024
الحضور القوي لنتاجات فيصل حوراني السياسية والتاريخية ولغته المميزة
من المؤكد أن الراحل الكبير فيصل حوراني ترك بصمته الخاصة في تاريخ الكتابة والفكر السياسي الفلسطيني المعاصرين.
كان أول كتاب قرأته له هو تحديداً كتاب "الفكر السياسي الفلسطيني 1964-1974" الذي صدر عن مركز الأبحاث الفلسطيني. ولكني كنت قد سمعت عنه قبل ذلك بسنوات، منذ العام 1968 تحديداً، حين انعقد مهرجان عالمي للشبيبة في إحدى عواصم أوروبا الشرقية في صيف ذلك العام، وكنت في ذلك الحين في فرنسا أتقدم لنيل شهادة الماجستير العلمية ولم أتمكن من المشاركة في ذلك المهرجان، ولكني علمت من الزميل الذي مثّل فرع اتحاد طلاب فلسطين في فرنسا في المهرجان أن فيصل حوراني التقى خلاله بالشاعر محمود درويش، الذي شارك في المهرجان في إطار وفد شبيبة الحزب الشيوعي الإسرائيلي, وهو لقاءٌ أثار في ذلك الحين انتقاداتٍ في بعض الأوساط القومية العربية المشاركة في المؤتمر، وخاصة بعض أعضاء حزب البعث، الذي كان فيصل منتمياً اليه منذ سنوات. وهي حادثة رواها فيصل في كتاباته اللاحقة وفي مذكراته الغنية "دروب المنفى".
اللقاء مع فيصل الذي انطبع في ذاكرتي كان في صيف العام 1973، وحدث على ظهر سفينةٍ كانت قد انطلقت من ميناء اللاذقية السوري، مروراً بميناء بيروت (المدينة التي انتقلت إليها في العام السابق للعمل في مركز الأبحاث الفلسطيني)، لتتجه نحو البحر الأسود وترسو في أحد موانئ رومانيا، لينتقل الركاب من الوفود العربية المشرقية بعد ذلك بالقطار نحو ألمانيا الشرقية، مروراً برومانيا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، للمشاركة في مهرجان الشبيبة العالمي الذي انعقد ذلك العام في برلين الشرقية بين 28 تموز/يوليو و5 آب/أغسطس. وهو المهرجان الذي شهد أثناء انعقاده أول لقاء رسمي بين الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وأحد قادة دول "المعسكر الإشتراكي"، الزعيم الألماني الشرقي إريش هونيكر. وهو اللقاء الذي تلته بعد ذلك لقاءات رسمية وعلنية مع قادة الإتحاد السوفييتي والدول الحليفة له على أعلى المستويات.
وكان فيصل أثناء رحلة السفينة يدعو بحيوية وجرأةٍ ملحوظتين لتحديد أهداف جديدة للنضال الفلسطيني وللقبول بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، الذي صدر في أواخر العام 1967، في حين كانت الساحة السياسية الفلسطينية آنذاك في غالبيتها ترفض هذا القرار، الذي، وإن أشار الى انسحاب إسرائيل من "أراضٍ احتُلت"، حسب النص الإنكليزي للقرار، أو من "الأراضي المحتلة"، حسب النص الفرنسي، خلال حرب حزيران/يونيو 1967، إلا انه لم يتضمن أية إشارة الى الشعب الفلسطيني وحقوقه، مكتفياً بكلماتٍ قليلة بشأن "حلٍ عادل لمشكلة اللاجئين"، ودون تحديدٍ لهوية هؤلاء اللاجئين. وكان فيصل بالتأكيد يدعو بالأساس الى بلورة أهدافٍ أكثر قابليةً للتحقق من هدف "التحرير الكامل".
وكان صيف العام 1973 يشهد احتدام هذا الجدل الذي كان يدور في الأوساط الفلسطينية الوطنية، وخاصة أوساط التنظيمات الفدائية، بشأن ضرورة بلورة هدفٍ للنضال يكون أقرب للتحقق من هدف التحرير الكامل لفلسطين التاريخية الذي تبنّته منظمة التحرير منذ إنشائها عام 1964، كما تبنّته حركة "فتح" والتنظيمات الفلسطينية الأخرى في سنواتها الأولى، بما فيها الجبهتان الشعبية والديمقراطية. ذلك أن النضال الوطني الفلسطيني الذي نهض مجدداً منذ أواسط ستينيات القرن العشرين، وشهد صعوداً ملحوظاً بعد حرب إسرائيل واحتلالاتها عام 1967، كان قد شهد في أيلول/سبتمبر 1970 صداماً دموياً في الأردن انتهى في صيف العام التالي بخروج قوات المقاومة الفلسطينية نهائياً من البلد وانتقالها الى ساحاتٍ أخرى، وخاصة الساحة اللبنانية. وشهد العام 1970 أيضاً رحيل جمال عبد الناصر، الزعيم المصري الذي كان يصرّ في خطبه بعد هزيمة العام 1967 على استرداد كل الأراضي العربية المحتلة في تلك الحرب، وليس "سيناء وحدها"... "القدس أولاً، الضفة الغربية، الجولان، غزة، كل الأراضي العربية"، كما قال في إحدى خطبه. وبدا أن خليفته على رأس الدولة المصرية، أنور السادات، لم يكن متمسكاً بالقدر ذاته بهذا الموقف، كما ظهر منذ المقترح الأول الذي أطلقه في مطلع العام 1971 والذي دعا فيه الى فتح قناة السويس مقابل انسحابٍ جزئي إسرائيلي من سيناء، وهو موقفٌ ازداد وضوحاً في ما بعد، وخاصةً بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وفضّ الإشتباك الأول مع الجانب الإسرائيلي في مطلع العام 1974، وفي نهاية المطاف في الصفقة المنفردة المتعلقة بسيناء وحدها عام 1979.
ولم تكن الساحة الفلسطينية، بالطبع، تملك ترف تجاهل هذه التطورات العاصفة في الإقليم، وشهدت منذ الخروج من الأردن، وخاصة منذ صيف العام 1973 وخلال العام التالي، نقاشاتٍ واسعة حول تحديد هدفٍ "مرحلي" للنضال الفلسطيني، أكثر قابليةً للتحقّق في أمدٍ منظور من هدف "التحرير الكامل"، وهو ما تبلور بشكلٍ تدريجي في قرارات دورات المجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت بعد ذلك، بدءً من دورة حزيران/يونيو 1974 في القاهرة. وكان فيصل بالطبع من الداعين الأوائل لفكرة الهدف المرحلي، أي مشروع الدولة الفلسطينية على حدود العام 1967.
وجرت لقاءاتٌ لاحقة جمعتنا، وكان واحدٌ من أهمها خلال مؤتمرٍ فكري إنعقد في برلين الشرقية حول فكر كارل ماركس في مطلع العام 1981 وكان الوفد الفلسطيني المشارك في المؤتمر برئاسة القائد الراحل ماجد أبو شرار، وكان فيصل وانا من بين أعضاء الوفد، وشاركنا في النقاشات الغنية التي جرت في المؤتمر، الذي افتتحه زعيم المانيا الديمقراطية (الشرقية) آنذاك إريش هونيكر.
وبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان ومنظمة التحرير في العام 1982، تغيّرت مواقعنا الجغرافية، حيث بقي فيصل أشهراً عدة في مركز الأبحاث في بيروت، بعد خروج قوات المقاومة وكوادرها، انتقل بعدها مع كادر المركز الى قبرص، فيما انتقلت أنا مع كادر مجلة "الحرية" الى دمشق، مع تسجيل امتياز المجلة في قبرص، بديلاً عن الإمتياز اللبناني. وهناك التقينا مجدداً في ربيع العام 1987، حين مُنع بعض الذين شاركوا في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التوحيدية، التي انعقدت في الجزائر في نيسان/ابريل من ذلك العام، من العودة الى سوريا، فتوزّعوا في بلدانٍ متعددة، وانتقلتُ أنا الى قبرص، حيث كان هناك مكتبٌ لمجلة "الحرية" في عاصمتها نيقوسيا، التي أمضيت فيها أكثر من عامٍ بقليل. وهناك التقينا مراراً، فيصل وأنا، وتحدثنا كثيراً، وتعرّفت من جانبي على ابنته الصغرى ليلى، التي كانت آنذاك طالبةً في إحدى مدارس قبرص، وأظهرت لاحقاً موهبة أدبية وكتابية ملفتة، هي في جانب منها بالتأكيد وراثية.
وبعد استشهاد القائد الوطني الكبير خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس، سمحت السلطات السورية لكل فلسطيني بالمجيء للمشاركة في تشييعه الذي جرى في مخيم اليرموك في دمشق، فعدتُ الى سوريا وبقيت هناك حتى العودة الى الوطن. وكان فيصل يرسل لنا منذ أواسط الثمانينيات مقالاً دورياً للنشر في مجلة "الحرية"، ويرفقه أحياناً ببعض المقالات التي لم تكن تتسع لها مجلة "شؤون فلسطينية" التي كانت تصدر عن مركز الأبحاث في قبرص. وعاد فيصل الى الوطن بعد اتفاق أوسلو، بادئاً بقطاع غزة الذي سبق وعاش فيه وله فيه أشقاء وأقارب، وعدتُ بدوري في العام 1996 الى الضفة الغربية، ومدينة رام الله تحديداً، التي كنت قد غادرتها قبل أكثر من ثلاثة عقود حين أنهيت الدراسة الثانوية.
وفي رام الله، التقينا مراراً بعد ذلك، حيث كان فيصل يتنقل بين فيينا ورام الله، وانتهى باقتناء منزلٍ في المدينة الفلسطينية، ساعياً للإستقرار هناك، خاصةً بعد وفاة زوجته باولا. وتناقشنا مراراً حول الوضع الراهن في منطقتنا وحول التاريخ الفلسطيني الحديث، وناقشت معه مشروع الكتاب الذي كنت أعدّه حول تاريخ المقاومة الفلسطينية والإقليم بعد حرب العام 1967، واستفدت بالفعل من هذه النقاشات ومن معلوماته وتجربته الواسعة، وفيصل هو الذي اقترح عليّ التوقف عند العام 2006، علماً بأن الكتاب أنجز بعد عشر سنوات من ذلك العام.
ولا شك أن التعرّف على فيصل حوراني كان مصدر إثراء بالنسبة لي، وإن لم نكن بالطبع نتفق دائماً على كل شيء، بل ربما كان الإختلاف في الرأي أحياناً مصدر غنى في نقاشاتنا. لكن تجربته الواسعة وعلاقاته الممتدة وحيويته الكبيرة كانت معيناً غنياً يساعد في رؤيةٍ أفضل للأمور.
ولا بد من الإشارة كذلك الى لغته النثرية المميزة، بحيث كان من الممكن معرفة علاقته بأي نص كتبه حتى دون أن يوقّعه. ولا شك أن فيصل سجل اسمه كواحدٍ من أهم مثقفي الشعب الفلسطيني واليسار الفلسطيني في النصف الثاني من القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين. ونحن سنتذكره دائماً كذلك، ونأمل أن تقرأه وتتذكّره الأجيال الأكثر شباباً منا كذلك، بما يساهم في مواصلة شقّ هذا الطريق الطويل والقاسي الذي بنته الأجيال الفلسطينية المتعاقبة منذ قرنٍ ونيف، في شتى المجالات النضالية، طريق استعادة الحرية والعيش الكريم على أرض الوطن.
وفي هذه الأيام السوداء الأليمة التي نشهد فيها هذه المجازر الرهيبة التي يتعرّض لها شعبنا في قطاع غزة وامتداداتٍ "مصغّرة" لها في العديد من مخيمات ومناطق الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة، نأمل أن تثمر تضحيات أجيال شعبنا المتلاحقة بحيث تشهد الأجيال الشابة أياماً أفضل من تلك التي عاشها جيلنا، خاصةً منذ النكبتين، نكبة العام 1948، ونكبة العام 1967، آملين ألا تنتهي حرب الإبادة الإسرائيلية الجديدة هذه في غزة وفي مناطق أخرى لتسجّل في تاريخ شعبنا كمجرد نكبةٍ إضافية أخرى، وإنما كمحطةٍ أساسية- مؤلمة ومُكلفة-، ولكن مثمرة، على طريق الخلاص من هذا الإحتلال البغيض وهذا النظام الإستعماري العنصري الذي نُكب به وطننا ومجمل منطقتنا.
ورسالتنا الى الراحل الكبير في ذكرى غيابه أننا سنذكره باستمرار ونذكر جرأته وقناعاته الراسخة وتفانيه في الدفاع عنها.
داود تلحمي
أواخر نيسان 2024
فيصل العزيز
نفتقدك ونفتقد أحاديثنا معك التي لم تنته أبدا. أتذكر كثيراً سخريتك اللاذعة. سخرية في محلها، تذهب بلا وجل إلى مقاصدها. وأتذكر ابتسامتك وقهقهاتك التي كانت تتبعها: "اجلسي إلى جهة أذني الجيدة." تعاني من مشاكل في السمع والنظر إلا أنك احترفت صنعة الإصغاء والنظر بعيداً إلى حيث لا نرى. تصغي بعناية خاصة لللأصغر عمراً. تقطع معهم عشرات السنوات بمهارة ساحر. متجدداً مثلهم رغم مرضك وتعبك.
اليوم أتذكرك كثيرا. يخطر ببالي خلافنا على نتائج الثورة المصرية وأتذكر حماستي الساذجة، حماسة الباحثين عن الأمل. ولا أنسى عبارة قلتها "لا تثقوا مطلقاً بمن يحملون عقيدة أمريكا." أحببت كثيراً محادثتك كرياضة ذهنية ممتعة لا تدري أين تأخذك. كنت أراك تستمتع بالنقاش كلاعب شطرنج محترف يتعرف إلى لاعب جديد يملك كثيراً من الحماسة وقليلا من الخبرة. تقهقه حين أرفع بيدقي بكامل الثقة . تطلق إحدى سخرياتك المحببة وضربة واحدة كش ملك. اليوم تحضرني أسئلة كثيرة وأعرف أنك ستتفادى الإجابة عن بعضها وستردها لي بعد أن أعدت صياغتها.
ليتك هنا لألح عليك بسؤال واحد: أين سنذهب من هنا؟ ماذا نفعل؟ ولتكن إجابتك أي شيء آخرعدا "توحدوا." لكن لا، رغم حاجتنا لك، إلا أنني لا أحزن كونك لست هنا الآن. لعلك لمرة واحدة لا تشهد كل هذا الموت والجوع، والقهر والدمار. لا تشهد مجزرة تلو الأخرى. ولا تشهد سوء أدائنا.
يعزينا بعض الشيء أنك رحلت قبل نكبتنا الثالثة. فكرك باق وفيه دلالات لمن يرغب ان يستدل، تضيء هذا النفق الطويل إلى بوابة الحرية.
سلام حمدان
عزيزي فيصل،
ينتابني شعور متناقض وأنا أكتب إليك هذه الرسالة في الذكرى الثانية لرحيلك: فأنا، من جهة، كنت أتمنى لو كنت معنا كي تنيرنا بأفكارك الخلاقة بشأن تجاوز هذه المحنة الجديدة التي يواجهها شعبنا؛ ومن جهة أخرى، أقول لنفسي لعله كان من الأنسب لصديقنا فيصل، الصلب الإرادة والرقيق المشاعر في آن معاً، أن لا يكون شاهداً مثلنا على المعاناة القاسية التي يعانيها أبناء وبنات شعبنا اليوم في قطاع غزة؛ فما نشهده من مشاهد الأمهات الثكلى، والأطفال الجوعى، والجموع الهائمة على وجهها هرباً من المذابح، والمقابر الجماعية، والمباني المدمرة، أدمى قلوبنا، وجعل الكثيرين منا غير قادرين على الاستمرار في متابعة الصور التي تنقلها شاشات التلفزة من هذا القطاع المنكوب الحبيب إلى قلبك وقلوبنا.
لقد كنت يا صديقي شاهداً، وأنت في التاسعة من عمرك، على "أصل الحكاية"، أي على النكبة التي حلت بقريتك "المسمية" الواقعة إلى الغرب من غزة، وذلك بعد أن افترس الظلم –كما تكتب- دور القرية، وشرّد أهلها، وأزالها من الأرض، وحوّل المدرسة التي درست فيها صفوفك الأولى إلى مدرسة لتدريب الشرطة الإسرائيلية، مثلما افترس مئات القرى الفلسطينية وشرّد أهاليها وحوّلهم إلى لاجئين، ورويت لنا كيف لجأت أسرتك الصغيرة إلى دمشق، وما عانته من فقر وعوز، وما واجهته أنت شخصياً من صعوبات خلال دراستك وعملك؛ لكنك صرت، فيما بعد، شاهداً على كيفية نجاح شعبك الفلسطيني، بفضل مقاومته والتفافه حول منظمة التحرير، في تجاوز ظروف تلك النكبة وفي إعادة إحياء قضيته الوطنية، ثم صرت مساهماً من خلال انخراطك في هذه المقاومة، بقلمك بوجه خاص، في تعزيز هذا النجاح عبر دفع حركة االمقاومة الفلسطينية للسير على طريق "الواقعية السياسية"، التي لم تجد من يتجاوب معها في الجانب الآخر، وذلك بعد أن سيطر على مقاليد الحكم في إسرائيل، منذ مطلع الألفية الثالثة، قوميون دينيون عنصريون، تنكروا ليس فقط لشروط سلام "العدل الممكن"، بل أرادوا كذلك، عبر ممارساتهم الظالمة، أن يستكملوا ما بدأوه في سنة 1948، وذلك من خلال فرض الاستسلام على شعبنا الفلسطيني وإشعاره بأنه شعب مهزوم ودفعه، في حال تمكنهم من ذلك، إلى ترك أرض وطنه.
لقد عدت، يا صديقي، قبل سنوات من رحيلك، إلى "وثيقة الاستقلال" الفلسطيني، متوقفاً عند الأسباب التي حالت دون تحقق الاستقلال وقيام الدولة المنشودة؛ ومع أنك كنت محقاً في التساؤل عما إذا كان الجهد الفلسطيني قد سار منذ سنة 1988 في الطريق الصحيح لوضع إعلان الاستقلال والمبادرة السلمية الفلسطينية في موضع التطبيق، إلا أن السبب الرئيسي الذي حال دون ما كنت تأمل فيه هو أننا لم نجد، كفلسطينيين، في الجانب الآخر من نصنع السلام معه، بل وأكثر من ذلك، فأنت قد رحلت قبل أن تتسلم السلطة في إسرائيل حكومة جعلت من برنامج أحد أقطابها الصهيونيين المتهورين برنامجاً لها فيما عُرف ببرنامج الحسم، أي حسم المعركة مع شعبنا بصورة نهائية ووضعه أمام خيارات ثلاثة لا رابع لها: تخليه عن طموحاته الوطنية والعيش بإذعان في دولة يهودية على كامل أرض فلسطين الانتدابية؛ تشجيعه على الهجرة خارج أرض وطنه التاريخي؛ قمعه بصورة لا سابق لها في حال صمم على المقاومة؛ حكومة وقف رئيسها على منصة هيئة الأمم المتحدة، خلال دورة انعقاد جمعيتها العامة الأخيرة، ليعرض "بافتخار" خريطة غاب عنها اسم فلسطين كلياً وليؤكد أن عقيدته القائمة على مبدأ "السلام في مقابل السلام" قد أثبتت صحتها بعد ان نجح في عقد "اتفاقات سلام" مع عدد من الدول العربية من دون أن يقدم أي تنازل عن الأرض وفي تجاهل تام للقضية الفلسطينية.
في ظل هذه الحكومة، التي رأى فيها المراقبون أكثر الحكومات تطرفاً في تاريخ إسرائيل، توسعت المستوطنات اليهودية وتمّ تشريع العديد من البؤر الاستيطانية، وتزايدت اعتداءات المستوطنين والجنود الإسرائيليين على المواطنين الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربية المحتلة، بحيث أصبح العنف تجاه الفلسطينيّين جزءاً لا يتجزأ من روتين نظام الاحتلال في الضفة الغربيّة. كما تصاعدت استفزازات اليهود المتدينين إزاء الحرم الشريف في مدينة القدس، وخصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى مجموعات منظمة تسعى إلى إعادة "بناء الهيكل" في موقع قبة الصخرة، واستمر الحصار الإسرائيلي الطويل في خنق سكان قطاع غزة وحرمانهم من مقومات حياتهم. وفي سياقات كهذه، لم يكن غريباً أن نستيقظ صبيحة يوم السبت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي على عملية مقاومة كبيرة أُطلق عليها اسم "طوفان الأقصى".
من الصحيح أن من خطط لعملية المقاومة هذه ونفّذها فعل ذلك بقرار تنظيمي منفرد في ظل حالة الانقسام التي تشهدها الساحة الفلسطينية، للأسف، منذ سنوات عديدة؛ ومن الصحيح كذلك أنه قد شابها بعض الخلل، وذلك عندما تمّ استهداف مدنيين إسرائيليين كان من المفترض تحييدهم –وهي واقعة من المؤكد أنك قد ستنتقدها لو كنت بيننا، كما فعلت أنا، من منطلق اعتقادنا المشترك بأن الشعب الخاضع للاحتلال يجب ان يبقى دوماً متفوقاً اخلاقياً على محتله- لكن الحقيقة هي أن هذه العملية حظيت بدعم الأغلبية العظمى من شعبنا، لأنها كانت، بتنظيمها وتنفيذها، غير مسبوقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية للاحتلال، وذلك بعد أن تمكن بضعة مئات من المقاتلين الفلسطينيين من اختراق الجدار المنيع القائم حول قطاع غزة، وهزوا سمعة الجيش الرابع في العالم الذي يوصف بأنه لا يُقهر، وكشفوا إخفاق أجهزته الاستخباراتية المعتمدة على أحدث الوسائل التكنولوجية، واحتلوا لساعات طويلة مساحات واسعة في مستوطنات منطقة "غلاف غزة"، التي أقيم بعضها على أنقاض القرى الفلسطينية المدمرة ومنها قريتك، وأثبتوا للعالم أن شعبنا الفلسطيني شعب لا يستكين، وأنه طالما بقي الاحتلال جاثماً على أرضه، فإن مقاومته ستتواصل وستبتدع، في كل مرة، أشكالاً جديدة.
وللرد على المهانة التي لحقت بها، أقدمت الحكومة - التي عرضت لك برنامجها إزاء شعبنا- على تعبئة جيشها وقواتها الاحتياطية، وحَشَد حلفاؤها حاملات طائراتهم وبوارجهم الحربية لمساندتها، وسارع وزراؤها، بغية تسويغ الحرب الانتقامية التي عزموا على شنها على قطاع غزة، إلى نزع إنسانية سكانه الفلسطينيين، وتصويرهم بـ "الحيوانات البشرية"، وأطلقوا العنان لآلة حربهم كي تقتل أكبر عدد ممكن منهم، وتدمر منازلهم ومدارسهم وجامعاتهم ومستشفياتهم وأماكن عبادتهم ومواقعهم التاريخية، وتفرض عليهم تجويعاً قاتلاً، وتقوم بإرغامهم على النزوح والتوجّه نحو الحدود المصرية، في محاولة لإفراغ القطاع من سكانه وتكرار تجربة سنة 1948. بل ذهب بعض أقطاب هذه الحكومة إلى حد الدعوة الصريحة إلى إعادة بناء المستوطنات اليهودية في قطاع غزة، التي جرى تفكيكها في سنة 2005، وعقدوا لهذا الغرض مؤتمرات رُفعت فيها شعارات تؤكد أن "التراسفير وحده هو الذي سيجلب السلام"، وأنه "من دون استيطان لا يوجد أمن"، و" من دون أمن في غلاف غزة لن يكون هناك أمن في إسرائيل كلها".
وفي ظل حرب الإبادة والتجويع هذه، تصاعدت أعمال الثأر التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون ضد أبناء وبنات شعبنا في الضفة الغربية، بدعم من جنود جيش الاحتلال وحتى مشاركتهم، وذلك بعد أن شدّد هذا الجيش قبضته على الضفة الغربية، وقام باعتقال آلاف الفلسطينيين، وعزز الحواجز المقامة بين مدنها وبلداتها وقراها، وضاعف عمليات التفتيش الأمنية، وجعل المخيمات الفلسطينية، وخصوصاً في شمال الضفة الغربية، هدفاً رئيسياً لحربه الثانية، التي قُتل خلالها حتى الآن ما لا يقل عن 480 فلسطينياً. ومارس في هذه المخيمات الممارسات نفسها التي يمارسها في القطاع، إذ هو لا يستهدف مقاتلي الكتائب المسلحة فيها فحسب، بل يستهدف كذلك بناها التحتية ومقومات حياة سكانها المدنيين، كي يجعلها أماكن غير صالحة للعيش على طريق تصفيتها وتهجير قاطنيها.
عزيزي فيصل،
لا يمكنك أن تتصوّر حجم الألم الذي يعتصر قلوبنا ونحن نتابع الأحداث التي تجري على أرض قطاعنا الحبيب –لعلك تعرف أن عائلتي تعود بأصولها إلى مدينة المجدل وأن قسماً كبيراً من أفرادها لجأ سنة 1948 إلى قطاع غزة، وقد علمت أن بعضهم قد استشهد خلال القصف الإسرائيلي -؛ فاسم مدينة غزة سيُدرج في التاريخ إلى جانب مدينة دريسدن وغيرها من المدن الشهيرة التي تعرضت للقصف، كما تفيد تقارير الخبراء، الذين يعتقدون أنها تحوّلت إلى منطقة غير قابلة للعيش، وأن إزالة الأنقاض فقط منها سيحتاج إلى عام كامل بعد انتهاء الحرب، في حين أن إعادة بناء مساكنها ستستغرق من 7 إلى 10 أعوام، إذا توفر التمويل اللازم. ومع أن محكمة العدل الدولية، التي بتت في الدعوى التي تقدمت بها جمهورية جنوب أفريقيا الصديقة واتهمت فيها إسرائيل بإرتكاب أفعال إبادة جماعية في قطاع غزة، قد أصدرت قرارات تتضمن تدابير مؤقتة، ينبغي على إسرائيل اتخاذها، بما فيها "الامتناع عن ارتكاب أي أعمال تندرج تحت اتفاقية الإبادة الجماعية"، و"منع التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية والمعاقبة عليه"، و"اتخاذ تدابير فورية وفعّالة لضمان توفير المساعدة الإنسانية للمدنيين في غزة"، إلا أن الحكومة الإسرائيلية لم تلتزم بتنفيذ هذه التدابير، بل واصلت حربها على قطاع غزة، وأعلن رئيسها بنيامين نتنياهو، مؤخراً، أنه أمر هيئة أركان جيشه بالتحضير لهجوم على مدينة رفح في جنوب القطاع، التي نزح إليها أكثر من مليون فلسطيني وفسطينية.
لكن في المقابل، وعلى الرغم من الخسائر البشرية والمادية المروعة التي ألحقتها هذه الحرب بقطاع غزة وسكانه، خلال الأشهر الفائتة، فإن الحكومة الإسرائيلية لم تفلح حتى كتابة هذه الأسطر في تحقيق الأهداف التي أعلنتها لهذه الحرب، إذ لا تزال المقاومة الفلسطينية مستمرة للقوات الإسرائيلية الغازية، حتى في المناطق التي أُعلن عن "تحييد" المقاومة فيها، ولم تفلح القوات الإسرائيلية في تحرير المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة "حماس" بالقوة، بل كان اتفاق الهدنة، التي استمرت أسبوعاً في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2023، هو الذي سمح بإطلاق سراح عدد منهم، وذلك في مقابل تحرير 240 أسيراً فلسطينياً من السجون الإسرائيلية من النساء والقاصرين أيضاً، في حين أن التهديد المستقبلي لإسرائيل النابع من قطاع غزة سيظل قائماً ما دامت المقاومة الفلسطينية تحافظ على بعض قدراتها العسكرية.
والسؤال الذي يشغل بالنا اليوم، يا صديقي، هو التالي: ما هي النتائج التي ستتمخض عن شلال الدم الغزير الذي سال، وما زال يسيل، على أرض قطاعنا الحبيب، وعن الدمار الهائل الذي لحق به؟ هل سيضعان شعبنا، في نهاية المطاف، على سكة التحرر؟ أو سيمثلان فصلاً جديداً من فصول نكبة مستمرة؟ أو بتعبيرك أنت: كيف ستكون "بقية الحكاية"؟ هل نجري نحو نصر؟ أو نجري إلى الهزيمة؟
للإجابة عن هذه الأسئلة المصيرية، كنا، يا عزيزي فيصل، في حاجة إلى رؤيتك السياسية، التي اتسمت دوماً بالتعقل، وإلى رحابة صدرك التي جعلتك من أبرز المحاورين الفلسطينيين الديمقراطيين الذين تميّزوا بتقديس النقد البناء واحترام الرأي والرأي الآخر.
ماهر الشريف
من خيمة أكرم صوراني إلى غيمة فيصل حوراني!
تحتار وأنت تختار لفيصل حوراني عنوان أو كلمة تُقَولبه أو تَصفه وتسأل من عرفوه عن قُرب وعن بُعد.. هوّا مين فيصل ..؟ مناضل ..؟ كاتب ..؟ أديب ..؟ مؤرخ ..؟ ناقد ..؟ أم ساخر وصاحب نكته سياسيه لاذعه ..؟ كنت كلما أسأل هذا السؤال أجد حيره في توصيف الشخصية حتى وصلت لقناعه ذاتيه وموضوعيه وهي أن أصدق وأقرب وصف لفيصل هو أن تقول فقط هو 'فيصل حوراني' الاسم بذاته 'براند'.. ليس لأن فيصل علم بل لأنه فكر وقلم..
كنت أحد المحظوظين الذين جالسوا فيصل حوراني رغم أني من عمر بناته، فصداقة والدي لفيصل كما كان يناديه وكما تحب لمى أن تناديه حتى في قبره، كانت كلمة السّر في اكتشاف كائن جديد بالنسبة لي، شخص غريب الأطوار، ملفت للانتباه وللعقل.. من أول لقاء على سفرة 'والدي' أبو جمال والذي كان يحرص دوماً على حضور 'فيصل' على سفرة البامية أو المقلوبة أو ما تيسّر من وجبة غداء كلما جاء إلى غزّة، كنت أجلس على السفرة بين قامتين كبيرتين أنسى البامية والمقلوبة وألتهم النقاش الذي يدور بينهما، كان يُهَيّء لي أن شاشة مونيتور أمام عين فيصل التي تكاد لا تتوقف عن الرَّمش، يسترسل كثيراً ويُغرقك في تفصيل كل تفصيله ويسرح فيك من حكاية الى رواية ثم يعود لأصل الحكاية، كنت استمتع واستمع جيداً له خاصة وانا الذي يعشق التفاصيل.
في مكتبة والدي بغزّة العديد من كتب فيصل حوراني، 'الفكر السياسي الفلسطيني'، 'جذور الرفض الفلسطيني'، وروايات لا تسعفني الذاكرة على استحضارها وقد يسعفني جوجل لاحقاً، لكن دائماً كان يقول لي والدي 'ضروري أكرم تقرأ دروب المنفى لفيصل هادي سيرة ذاتيه، فيصل مش بس بكتب رواية ولا بسرد حكاية ولا بستحضر تاريخ، فيصل يا أكرم بكتب أدب' ، 'دروب المنفى' كان من أهم الكتب التي يحرضني والدي على قراءتها وكنت ومازلت قارئ رديئاً.
ولأنّي 'يوتيوبي' الهوى تعوّدت على التعلّم بالاستماع أكثر من التعلم بالقراءة عندما ألتهم أيّ كتاب أو قصّة أو مؤرّخ أو فيلسوف أو روائي، فما بالك وأنت تتناول وتلتهم صاحب العين الواحدة صاحب العين الناقدة على لقمة واحدة.
رحل صاحب العين الناقدة، رحل فيصل حوراني وترك لنا ذاكرة، وتركنا ذاكرتنا، نسيناها في غزّة، وتركنا حاجات وأسئلة واجابات، وربّما لدواعي أمنيّة أتحفظ مرحلياً على البوح بها، ففي ربيع تأبين فيصل حوراني أسئلة في ذمّة 'أكتوبر'، وأسئلة في وجوه النازحين، وعذابات المُشرّدين، وفي وجه الخيمة خيبة كبيرة ونكبة جديدة، أتخيّل لو أن فيصل معنا الآن في الخيمة كان سيكتب 'كُروب المنفى'.. كُروب ما بعدها كروب يا فيصل! أتخيّلك لو كنت بيننا اليوم في الخيمة كنت ستسأل بعينك الواحدة الناقدة 'ماذا حدث للفلسطينيين؟' سؤال يصلح عنواناً لكتاب على غرار كتاب جلال أمين 'ماذا حدث للمصريين؟' ، كنت ستتناول فيه فقه الأولوية حول مستقبل القضيّة، وقلّة الحيلة، والخذلان، والخرس الاسلامي والعربي، وكنت ستخوض في جدليّة 'ما قبل أكتوبر' و'ما بعد أكتوبر'، كنت ستخوض في أولوية ترتيب 'المنزل الفلسطيني' وترتيب الخيمة.. واسمح لي أن أفضفض لك من قلب الخيبه وأحكيلك لا تقلق فالحرب حققت انجازات غير مسبوقه.
أولادي 'أحفاد صديقك أبو جمال' كانوا يذهبون للمدرسة ويحملون الكتب على ظهورهم كما حمالة الحطب نَحَلت أجسادهم وانحنت ظهورهم وألقوا الكتب في النار علّها تزيد من لهب الحطب وَلَّعوا بالتاريخ يا فيصل وبالجغرافيا وبالتربية الوطنيّة وهذا انجاز غير مسبوق!
كان لدينا بيت متواضع لطالما زرتنا فيه في شارع النّصر بغزّة 'هوّا اللي طلع أبويا فيه من الدنيا' صار عنّا خيمة وصرنا ننام فيها وعاملين 'رحلة سفاري' مفتوحة ومجانية وهذا انجاز غير مسبوق!
كان آخر همنا الأكل، صار أوّل همنا الأكل.. ولو تشوف الناس وهيّا بتهجم على قوافل المساعدات وبتحاول 'تسرقها' كان شفت إشي لأول مرّة تشوفه بحياتك.. كان شفت الفقر وهوّا بمشي على عكاز، وكان سمعت الجوع وهوّا بيكفر بنص الشّارع وهذا انجاز غير مسبوق!
كان شفتني وأنا واقف طابور عشان أستلم كيس طحين وكان حكيتلك كيف الهوية طلع إلها أهميّة، وكيف العِشرَة هانت على اتنين من أعز أصحابنا 'عزّة النَّفس' و'الكرامة' ومع إنُّه العِشرَة ما بتهون إلا على أولاد الحرام.. هانت عليهم العِشرة.. وهُنّنا على أنفسنا وهذا انجاز غير مسبوق!
كانت تدفّينا حيطان بيتنا وكانت لمّة العيلة أحلى ما في العيلة.. بعد الحرب صار كل حدا في مكان وصار السّفر ع الدّور كشوفات ودولارات وعائلات بتسيب البلد وتهاجر أسراب زي الحمام الزاجل وهذا انجاز غير مسبوق!
صارت النّاس تبيع سياراتها ومصاغ ذهب زوجاتها بثمن رخيص وتافه من أجل تأمين مبلغ الهروب وهذا انجاز غير مسبوق!
كنّا ولا مَرّة نتخيّل كيف في ناس بتنام في خيمة بين السّما والأرض.. بالشّارع.. تترك بيوتها وتنام بخيمة.. بطّلنا نتخيّل.. صارت الخيمة حقيقة.. نسينا حياتنا قبل الحرب.. كإنها كانت حلم.. راح البيت وراحت كل تفاصيل حياتنا.. وتشفّرت أحلامنا.. وتفرمَتَت ذكرياتنا.. وصارت الخيمة بيتنا.. وصرنا مشرديّن وهذا كله انجاز غير مسبوق!
وبلا ما أطوّل عليك وأزعجك في قبرك بالانجازات غير المسبوقه، موجودة كاملة على صفحتي ممكن العزيزة لمى تقرئلك إياها على فضاوة..
بدّي أحكيلك سر ما حدا بعرفه، بنتك الغالية لمى عملتلنا جوازات السّفر وصراحه لسّه معندة مش راضيه تاخد الفلوس أبصر لمين طالعه عنيدة..! المهم مش عارف متى وكيف راح أستلم الجوازات، القصف الآن 'على أبو وِدنُه' في رفح، وكل ليله بحكي 'هادي الليله شكلها صعبه' بس أوّل ما تزورني الشمس الصبح بفتح عيني نص فتحه بشوفها باعته رسالة غريبه 'لقد تم شحن رصيد حياتك.. مبروك لقد حصلت على حزمة اضافية من النجاة! لحظة القصف وأصوات الانفجارات من حولك وخاصة ليلاً تشعر وكأنّ الليل ينادي عليك بصوت يُشبه صوت اسطوانة 'جيش الدفاع' وهي تطالبك بالاخلاء فوراً.. 'عُذراً لقد نفذ رصيدك في الحياة يُرجى المحاولة فيما بعد..' في تلك اللحظة العصيبه إما أن تَشحَنك الصّدفة برصيد فوري اضافي من حياة أو أن تُصبح خارج التغطيّه!
شكراً للصدفة يا فيصل، الصدفة التي كنت ووالدي تتفقوا دائماً على إنّو 'فش إشي اسمه صدفه' وإنّو 'الصدفة هيّا عجزنا عن تفسير الظواهر' وأنا واتنين مليون ونص مليون غزّاوي عاجزين عن التفسير الآن، وحتى انتهائي من كتابة ما أكتبه في ذكرى تأبينك، أو لحظة تَبَخُّري فجأة هكذا دون مقدمات، ولحظة وصولي إليك وتحوّلي لغيمة مثلك سأنهمر في البكاء وأنهمر في سؤالك عساني أعرف منك ماذا حدث لنا ؟ ولماذا وصلنا إلى هنا ؟ وهل الثّمن الذي ستتم جبايته 'محرز' أم أنّه أسخف بكثير مما وصلنا إليه..؟ متى سأكون عندك لا أدري، كل ما أعرفه أنه قد تم شحني برصيد اضافي وحصلت على حزمة إضافية من النّجاة.. حزمة إضافيّه من حياة.. وربحت يوم جديد!
وإلى أن ألتقيك في غيمة.. حالياً أنا وصديق عمرك أبو جمال في الخيمة.. سلملنا على كل الأصدقاء طرفك.. سلّم على محمود درويش واحكيلو أكرم 'منذ الخيمه غَيره!' وسلّم على شقيقك العزيز د.رباح (أبو مروان) احكيلو السيجارة الواحدة صارت بعشرين شيكل، كان مُدخن شَرِه زي ما انت عارف، وكانت مشكلة لو كان بيننا اليوم، احكيلو الناس متمسكه بالأرض وبسابقوا الزّمن لتأمين مبلغ خروجهم من الأرض! احكيلو أم مروان وحسن ومؤنس ومؤمن وباقي أفراد العائلة حتى اللحظة بخير وبغزّة وبرفح وبالزوايدة وبالوسطى وبالوجع وبالألم وبالوحل وبالخيمة.. خيمة تخيبنا يا فيصل!
بالمناسبة، رفيق عمرك أبو جمال وصل الثامنة والسبعين في الحرب ووصل الخيمة في 'مواصي رفح' بعد رحلة نُزوح مُضنيه لم يكن يتخيلها في أسوأ كوابيسُه، ولكنه استيقظ فجر 13/أكتوبر/2023 على النبأ الكابوس هو والعظيمة التي كانت تُعِد لك البامية والمقلوبة أم جمال، كنّا مضطرين تحت شدة القصف وتهديدات سرعة الاخلاء النزوح نحو الجنوب، تركنا البيت في لحظات صمت ورعب وقصف يكسر ذهولنا ، ويكسر الظهر والقلب!
وصلنا خانيونس، ووصلنا رفح، ووصلنا الخيمة التي كتب عنها غسان كنفاني وإنّو 'خيمة عن خيمة بتفرق!' ، يبدو بعد سنوات العمر التي ناضلت وحلمت فيها أنتَ وأبو جمال وكل أبناء جيلكم ، يمكنني تأكيد مقولة غسان 'خيبه عن خيبه بتفرق!' ، ما يحدث معنا اليوم في قطاع غزة تعدّى حدود الخيبه وحدود النكسه، هي نكبة ثانية ثلاثية الابعاد، أشد وأقسى من نكبة 1948!
وصل رفيق عمرك أبو جمال الثامنة والسبعين في الحرب وكانت لا تستوقفه عبارة 'كل عام وأنت بخير'، ما انت بتعرف كانت تستفزه هاي العبارة كتير وكان يستفزه العيد، الآن تستوقفه العبارة كثيراً، ففي كل دقيقة في غزّة نجتهد في البحث عن الخير، وعن الأمان، وسط بقعة من الدم يأكل فيها الناس كل شيء عدا الأكل، يطبخون كل شيء عدا الطبيخ، هنا من السُّخف أن يسألك أحد 'عن حالك' لأنّ من السُّخف أن نقول له أننا بخير، ليس لأننا لسنا بخير ، لأننا فقط نقول لمن يسأل 'مازلنا أحياء' في عالم مُزيّف ، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم عن مجاعة في غزّة، وحرب طاحنة، وبذخ في الموت..
عمّي العزيز فيصل.. من تحت القصف، من فلسطين من غزّة، إلى خانيونس، إلى رفح، إلى الخيمة، وصلنا بالسّلامة الى المجهول ولم تصل أحلامك وأحلامنا بَعد، ولم تصل آمالك وآمالنا بَعد وأخشى أن تكون تَبَخّرَت في الطريق!
أكرم الصوراني
ابريل/٢٠٢٤
فلسطين/غزّة/خانيونس/رفح/الخيمة/المجهول!
#خيمة_تخيبنا
صديقي فيصل حوراني،
عماد شقور
كثيرون هم الأصدقاء المشتركون الذين يفتقدونك منذ رحيلك. يفتقدونك بشكل عام، ويفتقدونك في هذه الأيام الصعبة بشكل خاص، ذلك انها ايام مرحلة فاصلة بين زمنين: زمن ما قبل السابع من أكتوبر، وزمن ما بعد السابع من أكتوبر، الذي فتح الباب واسعاً على مرحلة جديدة، واعدة بخير عميم، في تاريخ قضية شعبنا الفلسطيني.
ليتك معنا، لا لنُسمعك رأينا وتحليلاتنا وتقديرنا لاحتمالات ما قد تنتهي اليه هذه التطورات فقط، بل، والأهم من ذلك: لنسمع منك، وانت الدّارس، والمتابع، والمدقّق في خبايا تطورات القضية الفلسطينية، منذ ارهاصاتها وبداياتها الاولى؛ ولنحاورك في كل قناعة ورؤية لك حول كل ما يجري من أحداث في هذه الايام.
انها أحداث تاريخ نعيشه لحظة تشكّله. نراها، نسمعها، نتحاور حول أبعادها لحظة وقوعها، نحن وملايين البشر في كافة بقاع الأرض، ونفتقد صوتك الذي اعتدنا على سماعه، ليعطي لهذا الهيكل العظمي من الأحداث لحماً ودماً وروحاً ومعنىً. لتفسيره وتوضيح أبعاده وامكانيات ردود الأفعال عليه، وما يجدر بنا، كفلسطينيين، أن نتّخذه من خطوات، ونقدم عليه من مبادرات، تربك العدو، تفضح جرائمه وعنصريته ودمويته، تعظّم مكاسب مقاتلينا وأبناء شعبنا، وتقلل الخسائر.
صديقي فيصل!
أعرف ما تعنيه غزة بالنسبة لك. هي بلدك الثاني بعد المسميّة. غزة بالنسبة لك هي بلد الطفولة، قبل تهجيرك الى سوريا، وقبل بداية العمل في مجال الكتابة والصحافة في دمشق، ثم الجزائر، والعودة الى دمشق، وبعدها بيروت ثم قبرص، ثم موسكو الى ان تم اختيارك الإقامة في فيينا للتفرغ للكتابة، وتلت ذلك رحلاتك وزياراتك الى غزة.. مروراً بالمسميّة كما وثّقت ذلك، وبعدها مواصلة التنقل بين منفاك الذي اخترته: فيينا، وعاصمتنا المؤقتة، رام الله.
غزة، يا صديقي، تعاني هذه الأيام من هجمة همجية صهيونية عنصرية دموية. دمرت آلة القتل والإجرام الإسرائيلية كل ما تسطيعه من تدمير وقتل فيها. بلغ حقد الحركة الصهيونية منتهاه. بلغ عدد الشهداء والضحايا، (حتى الآن)، أكثر من أربعين الف، بين مدفونين في مقابر، ومدفونين في مقابر جماعية، ومدفونين تحت الركام، ومدفونين في الهواء الطلق... "طلق"!!!. بلغ عدد المصابين والجرحى أكثر من ثمانين الف، ستبقى نسبة مرتفعة منهم معاقين مدى ما بقي لهم من حياة. إضافة الى ان كل من نجا من أهل غزة، واللاجئين فيها، (حتى الآن، مرة اخرى)، عانى ويعاني ما لا يطيقه بشر: تجويع، عطش لشربة ماء، وحرمان من علاج وحبة دواء، وترهيب ونشر رعب.
صديقي فيصل:
هذا السّواد المؤلم، في لوحة أحداث هذه الأيام، التي نقلتها لك، هو جزء صغير من مساحة كامل اللوحة. في كامل اللوحة، يا صديقي، فضاء وبياض ونور يُشغل النسبة الأكبر من مساحتها:
ـ أعادت أحداث السابع من أكتوبر الروح الى معاني "النضال" و"المقاومة" و"الفداء" و"الكفاح المسلح"، وواجب وضرورة ممارسة كافة أشكال العمل الوطني المشروع، لاستعادة كامل حقوق شعبنا.
ـ أعادت أحداث السابع من أكتوبر الروح الى البحث والتقييم والمعالجة الى البدايات: من "وعد بلفور" (1917)، الى "قرار التقسيم" (1947)، الى "النكبة" (1948)، الى نتائج "نكسة حزيران" (1967). وأعادت فتح كامل ملفات ما عانيناه ونعانيه، واعتقدت اسرائيل والحركة الصهيونية العنصرية أنها اصبحت ملفات محسومة، منتهية، ومغلقة.
ـ جرّت اسرائيل الى مقاعد المتهمين في محكمة العدل الدولية لمحاسبتها على كل جرائمها من اعتماد سياسة الإبادة الجماعية (الجينوسايد)، والتمييز والفصل العنصري (الأبرتهايد)، وهي المقاعد التي شغلها من قبلهم قادة الحركة النازيّة من سياسيين وعسكريين.
ـ هزّ زلزال السابع من أكتوبر، وما تلاه من ارتدادات متواصلة، ضمير العالم الذي تشهد عواصمه ومدنه مظاهرات ملايين البشر، انتصاراً لحق شعبنا في الحياة والحرية والاستقلال، ورفضاً وإدانة لجرائم ومجازر ارتكبها، وما زال يرتكبها، جيش الإحتلال والإستعمار الإسرائيلي، وبلغ هذه الأيام ذروة جديدة من خلال انتفاضات طلاب وأساتذة أكبر وأرقى الجامعات في العالم.
كل هذا يجعلنا في حاجة ماسّة لسماع رأيك وتقييمك لهذه التطورات في المشهد الفلسطيني والعالمي، وتقديرك لنتائجه وانعكاساته الفورية والمستقبلية على قضيتنا الفلسطينية.
صديقي فيصل!
أصدقاؤنا المشتركون، كما ذكرت، يفتقدونك. دع كل واحد منهم يعبر عن افتقاده لك بطريقته: كتابة.. حديثاً شفهياً مع صديق.. او تفكيراً. أما أنا فسأختصر "حديثي الروحي" هذا معك، لأسجّل نقطتين فقط، أنا مدين لك فيهما:
الأولى: أنني مدين لك، حيث كنت انت، منذ ان تعارفنا في مطلع سنة 1968، أول من فتح لي أبواب دمشق: الثقافية، الفنية، الفكرية، السياسية والصحافية. من أهل دمشق، والمقيمين فيها من ضيوف ولاجئين سياسيين، ولاجئين. من خلالك، وبفضلك، عرفت أعماق دمشق وروحها، فعشقتها.. وربطتني بعدد كبير من فرسان هذه الأبواب صداقات وعلاقات حميمة ممتدّة. من الشاعر الكبير عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، الى عبد الرزاق اليحيى، الى الدكتورين منير حمارنة ونبيه ارشيدات، الى فاتح المدرّس ونذير نبعة، ونزيه أبو عفش، من عبدالله البرقاوي الى محمد بصل، (شقيق زوجتك روضة وخال بناتك الغاليات: لمى ولينا وليلى)... وغير هؤلاء كثيرون.
الثانية: وهي التي كشفَت لي عمق قدرتك على التحليل والربط والتفسير والاسستقراء. كان ذلك مساء يوم الرابع من أكتوبر سنة 1973، حيث التقينا وأنا في طريقي من دمشق الى بيروت. قلت لي يومها: "عندي تقدير وإحساس أننا على عتبة أحداث جسام، وربما حرب كبيرة خلال ساعات وربما أيام قليلة". حين استفسرت منك عن السبب لهذه القناعة، كان ردّك: "لاحظت قبل ساعات وجود عدد كبير وغير عادي من جنود في الجيش السوري، بعضهم مرافقين لضباط كبار أعرف بعضهم، في طابور أمام فرن قريب من بيتي، ورأيت بعضهم يخرج من الفرن حاملين ربطات خبز أكبر من العادة، فتقصدت تفقد الوضع في فرن آخر، ثم في فرن ثالث، ولدهشتي شهدت وضعاً مماثلاً للطابور أمام الفرن القريب من بيتي.. بل وبعض حوانيت البقالة أيضاً، وليس هناك إلا تفسير واحد، في اعتقادي، هو أن ضباطاً كباراً في الجيش السوري يحرصون اليوم، نتيجة اطلاعهم على ما لا نعرفه، على تزويد بيوتهم وعائلاتهم بكميات غير عادية من الخبز والمؤونة، احتياطاً لأحداث جسام على ما يبدو". فعلاً، وبعد أقل من 48 ساعة اندلعت حرب السادس من أكتوبر 1973.
صديقي فيصل،
ليتك معنا الآن. لو كان ذلك ممكناً لقلت لك:
انتصار اسرائيل الساحق في حرب "الخامس" من يونيو 1967، أفقدها عقلها، وأغرقها في حالة من السّكْر والهذيان، وكان لا بد من ضربها في "السادس" من أكتوبر 1973، في محاولة لإيقاظها من الهلوسات التي أضاعت صوابها، ولتخليصها من حالة السّكْر التي أصيبت بها. أعادت اسرائيل سيناء لمصر، ولكنها نجحت، بمساعدة حاميتها، أميركا، في إخراج مصر من معادلة الحرب مع اسرائيل، وهو ما أغراها ومكنها من العودة الى حالة السّكْر والهذيان، فكان لا بد من ضربها، مرة ثانية، بعد خمسين سنة، في "السابع" من أكتوبر 2024، في مبادرة جديدة لإيقاظها من الهلوسات التي أضاعت صوابها، ولتخليصها من حالة السّكْر التي عادت اليها. وسؤالي لك هو: هل ستعود اسرائيل، في تقديرك، الى جادة التعقل والصواب، وتعرف أنه "لا يموت حقٌّ وراءه مطالب؟" أم ستضطرنا للوصول الى "الثامن" من شهر ما، في سنة قريبة ما، لتعرف أن حرب "الخامس" من يونيو كانت "نكسة" حقيقية للأمة العربية، ولكنها كانت أيضاً، في مجمل أبعادها التاريخية، "لعنة" على إسرائيل والإسرائيليين؟.
فيصل حوراني... السهل الممتنع في السياسة والأدب
الذين كانوا قريبين من فيصل حوراني كأصدقاء شخصيين أو زملاء عمل، أو رفاق انتماءٍ سياسي، اتفقوا على وصف دقيق للرجل "السهل الممتنع".
اتسمت شخصيته بتلقائية سلسة انعكست على سلوكه ونمّت عن تمكن وثراء، في وعيه وثقافته وفكره، وقلما تمتع كاتب وسياسي ومثقف بهذه الميزة التي توفر ملكة استثنائية للتعبير عن المخزون الفكري وتجنب التمويه الذي يلوذ به كثيرون ممن اعتبروا التعقيد اللغوي ساتراً يصلح لإخفاء العيوب والسطحية.
حين كان يتكلم في أي محفل يجذب الانتباه لاقتران عمق المضمون ببساطة التعبير، لم يكن بحاجة لتبرير مواقفه الصريحة والمباشرة من أكثر الأمور إشكالية في الحياة الفلسطينية والعربية، وما أكثر إشكاليات المواقف والسياسات وتحديد الاتجاهات في الحالة الفلسطينية المندمجة بكل تفاصيلها بالحالة العربية.
اكتشف فيصل مبكراً معنى أن يكون فلسطينياً أولاً وأخيراً، وهذا اكتشاف يبدو بسيطاً وبديهياً غير أنه في غاية الصعوبة والتعقيد، إذ يجد الانسان نفسه أمام حتمية الإجابة عن السؤال.. كيف؟
دفعه العمق الفلسطيني في فكره وروحه، لأن يختار انتماءً حزبياً رأى فيه الطريق الحتمية الذي يتعين على كل فلسطيني وعربي أن يسلكه لتحقيق الأماني التي كانت تبدو كأهداف، غير أن انتماءه الحزبي الذي فيه قدر كبير من الرومانسية لم يمنعه من أن يعتبر الانتماء الفلسطيني هو خياره الدائم حيث لا مناص من التضحية بالحزبية في حال الاختلاف مع هذا الخيار.
اختلف كثيراً مع إنتمائه الحزبي، وغادره دون أن يغادر القيم التي قادته إليه، لتبدأ مرحلة جديدة مختلفة ومهمة في حياة فيصل، هي من النوع الذي خياراته سهلة ولكن ممتنعة.
إن مغادرة الانتماء الحزبي نحو فضاء أرحب وبأجنحة غير مقيدة، لابد وأن يُنشئ متاعب مع سياسة وسياسيين، خبّأوا أجنداتهم الشخصية والسلطوية تحت ساتر من رومانسية الشعار، غير أن هذه المتاعب كالملاحقة والاعتقال وحتى التجويع تظل أقل أذىً على الروح والذات من التضحية بمزايا الفضاء اللامتناهي الذي حسم فيصل أمره بالتحليق فيه، ليس في السياسة فقط وإنما في الأدب والابداع.
في هذه المرحلة من حياته اختار لنفسه معادلة التزم بها طيلة عمره، قوامها الفلسطينية في القلب والعقل والروح، هي الجين المكون للشخصية ولا يمكن أن يغادرها، منه تتحدد الاتفاقات والاختلافات، ومنه كذلك ينشأ الأمان وضمانة عدم التوهان.
في هذه المرحلة عرفت فيصل عن قربٍ أكثر، وخضت معه حوارات مستفيضة وما شدّني إليه أمر كنت أتمناه لنفسي وهو القدرة على توظيف البساطة في إيصال الأفكار العميقة والمعقدة، وكذلك حسن استخدامه لمبدأ الواقعية السياسية التي أساسها وعي المكانة الوطنية في شبكة التقاطعات الإقليمية والدولية، كان يؤمن بأن لا معنى لشعار رومانسي إن لم يخدم بحسابات ومبادرات تبقي فلسطين أولاً كرقم ثابت في المعادلة، وتفتح فرصاً للتقدم نحو تحقيق الأهداف الممكنة.
في مداخلاته الملفتة في المؤسسة الأهم بعد المجلس الوطني "اتحاد الكتاب والصحافيين" وفي مداخلاته أمام المجلس الوطني، كان جريئاً وصريحاً ومباشراً في تقويم الأخطاء، وما أكثرها في المسيرة الفلسطينية، وواقعياً في طروحاته من أجل تصويبها.. كان يقول: "إن أشد ما يؤلمني أننا لا نفعل ما نستطيع من الصواب ونواصل فعل أقصى ما نستطيع من الخطأ".
لم تتوقف لقاءاتي وحواراتي المطولة معه أثناء شراكتنا في دروب المنفى من عمان إلى دمشق إلى بيروت إلى تونس إلى غزة ورام الله أخيراً، وأماكن أخرى رمتنا إليها الغربة التي أكلت الكثير من عمرنا وكانت أنعشت آمالنا ثم خيبتنا فيما بعد.
كانت اللقاءات الأهم هي تلك التي تمت داخل الوطن حين اكتشفنا تقارب التفكير وحتى المزاج في تأمل ما آلت إليه رحلتنا، تقارباً يشبه ما كان في المنفى ولكنه صار على أرض الوطن أكثر عمقاً واتساعاً ولهذا اخترته لمراجعة وتدقيق كتابي "ياسر عرفات وجنون الجغرافيا" كان أميناً وغير مجامل، ما شجعني على اتخاذ قراري بأن أطلب منه تقديم الكتاب، وقد استجاب، وبوسعي القول إن الكتاب من دون التقديم الذي كتبه فيصل سيكون غير مكتمل.
غاب فيصل عن حياتنا مثلما غاب أمثاله من المبدعين الذي قدموا فلسطين الوطن والشعب والقضية والعدالة للعالم بأفضل الصور والمضامين وأرقاها.
ليس فيصل ولا كوكبة المبدعين الذين عاصروه وقدمهم للعالم حين كان كثيرون منهم تحت حصار ظالم من ذوي القربى، مثل شعراء وأدباء الأرض المحتلة. ليس فيصل وكل هؤلاء بحاجة إلى لجان تخليد وحفلات تأبين وقصائد رثاء، فما أنتجوه ووضعوه بين أيدينا من إضاءات فكريةٍ وسياسيةٍ وثقافية تكفي لتخليدهم في ذاكرة الأجيال، وما يطلبونه منا ومن الأجيال التي تلينا أن لا تظل وصاياهم الحكيمة لنا مجرد حبر على ورق أو حديث ذكريات بل معالم على الطريق الصعب والطويل، الذي سينقلنا فعلاً من دروب المنفى إلى دروب حرية واستقلال الوطن.
فيصل حوراني أو رائد التفكير النقدي الفلسطيني
ماجد كيالي
كانت معرفتي بالراحل فيصل حوراني، المفكر السياسي، والباحث، والروائي، والمناضل بالطبع، شخصية وعامة، في آن معا، إذ صدف إني التقيته لأول مرة في مكتب الإعلام الفلسطيني في دمشق، في أواسط السبعينيات، وسط جدال حاد بينه وبين شخصيات قيادية في حركة "فتح"، من المحسوبين على المعارضة، وضمنه معارضة اعتماد القيادة الفلسطينية للبرنامج المرحلي، الذي كان في مركز الجدل الفلسطيني، آنذاك، بعد تحول الحركة الوطنية الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة وقيادة فتح، من برنامج التحرير إلى برنامج يتعلق بالقبول بإقامة سلطة أو دولة في الأراضي المحتلة عام 1967 (الضفة والقطاع).
ومنذ حينه لفت انتباهي هذا الرجل الذي يحاجج بنجاح، وبعناد، مع خلفية سياسية وثقافية عميقة، ومع رؤية تستند للواقعية في السياسة، علما إنني كنت حينها في التيار الفتحاوي المعارض لذلك البرنامج؛ ولي رأي أخر حول هذا الموضوع سأعود إليه لاحقا.
بيد إن تلك الخلفية، وضمنها الاختلاف في وجهة النظر، لم تحل دون اعجابي بالرجل، واهتمامي، فيما بعد، بمتابعته كقارئ، وكسياسي، وكمهتم، لذا فقد حرصت كثيرا على مطالعة كتبه السياسية، وأهمها: "الفكر السياسي الفلسطيني (1964 ـ 1974)، و"جذور الرفض الفلسطيني 1918- 1948" و"تطور فكر م.ت.ف ومواقفها السياسية"، و"قراءة نقدية لتاريخ المقاومة الفلسطينية"، ولا أخفي أن ذلك بين الأسباب التي جعلتني أهتم بالكتابة السياسية.
بعد ذلك أتيح لي أن ألتقي بشكل مباشر بفيصل وأن أتعرف عليه شخصيا، لدى لقائي به، عدة مرات، بمعية صديقنا المشترك، الراحل سميح شبيب، في بيت ابنته، وفي بيتي، في دمشق، حينما كان يأتي إليها من فيينا، مكان إقامته بعد الخروج من بيروت، مع قيادات وكوادر ومقاتلي منظمة التحرير، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وكانت تلك اللقاءات فرصة جيدة للتعارف، وبناء صداقة، وأيضا لتبادل وجهات النظر، حول ما جرى للحركة الوطنية الفلسطينية، وأوضاع السلطة، مع كل ما في ذلك الحديث من إشكاليات وأشجان وروح نقدية، وساخرة.
أيضا، تسنى لي لقاء فيصل مرتين، بعد خروجي من سوريا، إذ أتيح لي أن ألتقيه مرتين، برفقة سميح شبيب، في مكان إقامته في بيته في فيينا، على غداء أصر أن يعده بنفسه، بوجود زوجته اللطيفة جدا باولا، والمهم أنه في كل تلك اللقاءات، التي كنا نتبادل فيها وجهات النظر، بكل تفهم وود، كان يعبر لي عن متابعته واهتمامه لما اكتب، ما ينم عن روح أصيلة مليئة بالتواضع والمودة.
على الصعيد العام، كقارئ، وإلى جانب اهتمامي بقراءة كتبه السياسية، ومقالاته بالطبع، كنت اطلعت على رواياته، سيما "بير الشوم"، و"سمك اللجة"، أما "دروب المنفى"، وهي في خمسة أجزاء بين الرواية والشهادة الشخصية والسيرة السياسية، فعلى ما أذكر اطلعت على جزئين منها، وفي كل تلك الروايات تعرفت على روح الحكاء أو الراوي القوية والمليئة عند فيصل، وإنه ربما لولا لوثة السياسة، أو ادمانه السياسة، لكان واحدا من أهم الروائيين الفلسطينيين.
عموما سأترك حقل الرواية للروائيين، وللنقاد في حقل الأدب، لكنني سأتحدث هنا عن شهادتي ككاتب وكقارئ سياسي، وكصاحب تجربة في الحقل السياسي، إذ أعتبر أن كتب فيصل في هذا المجال من أهم الكتب السياسية الفلسطينية، التي كتبت بروح موضوعية وواقعية وبمسؤولية، ومن منظور نقدي، وطبعا مع أسلوب سلس، وجاذب.
وبرأيي فإن كتاب (الفكر السياسي الفلسطيني)، هو من أهم كتبه، وتالياً من أهم الكتب الفلسطينية في الحقل السياسي، الذي اشتغل فيه بدأب على عرض الميثاقين القومي والوطني الفلسطينيين، بطريقة تفصيلية، وبيّن مكامن الخلل التي تكمن فيهما، إضافة إلى عقد مقارنة بينهما. والأهم من كل ذلك أن فيصل كشف في هذا الكتاب قصور الميثاق القومي عن الإحاطة بالوضع الفلسطيني ومتطلباته، سيما على صعيد إبراز البعد الوطني والكيانية الفلسطينيين، على خلاف اعتقاد البعض بأن الميثاق الوطني أتى أقل ثورية أو جذرية من سابقه.
في الكتاب المذكور، أيضا، نافح فيصل عن ضرورة بلورة كيان وطني فلسطيني، وعن ضرورة التحول نحو الواقعية السياسية، والنأي عن روح الرفض التي اعتاد الفلسطينيون عليها، والتي رصد كتابه الأخر المميز لها (جذور الرفض الفلسطيني)، إذ اعتبر أن الرفض هو قرين العدمية، وعدم الواقعية، لذلك فقد نافح فيصل بدأب وعناد شديدين عن البرنامج المرحلي، أكثر من أي طرف أخر، وكان هذا التيار هو الغالب في الحركة الوطنية الفلسطينية، وهو الخيار الذي سارت عليه الحركة الوطنية الفلسطينية منذ العام 1974.
من وجهة نظري آنذاك، وحتى الآن، فإن وجه الاعتراض عندي على ذلك البرنامج لا تتعلق بنصه، أو دواعيه، وإنما هي تتعلق بكيفية تبنيه وفرضه كبرنامج وطني من قبل القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة و"فتح"، إذ لم تطرح ذلك البرنامج للنقاش العام، وإنما فرضته بطريقة فوقية في المجلس الوطني الفلسطيني (د.12، 1974)، الذي ترتبه على مزاجها (بالتعيين)، كما هو معروف. والأهم من ذلك أن قيادة "فتح" لم تطرحه للنقاش في صفوف الحركة، وحتى أن المؤتمر الرابع لـ "فتح" (دمشق، 1980) لم يقر ذلك البرنامج، الذي تم تبنيه من قبل فتح في مؤتمرها الخامس (تونس، 1988)، بعد انتهاء التجربة الفلسطينية المسلحة في لبنان.
أيضا، وجه الاعتراض على ذلك البرنامج أنه أتى بغرض التكيف، أو التماهي، مع الشروط الدولية والعربية للاعتراف بمنظمة التحرير، في ذلك الوقت، وليس بناء على توفر ظروف واقعية تتيح تحقيقه، بدليل إنه لم يتحقق حتى الآن، أي بعد مضي 50 عاما على إقراره.
على ذلك، ففي حينه كان بإمكان القيادة الفلسطينية أن تتكيف مع الشروط الدولية بطرح فكرة الدولة الديمقراطية الواحدة، دولة المواطنين، الذي يتناسب مع قيم الديمقراطية الليبرالية، في الدول الغربية، وهي فكرة رائدة كانت الحركة الوطنية الفلسطينية تبنتها في أواخر الستينيات، وكان لمثل تلك الفكرة أن تجنب الحركة الوطنية الفلسطينية أعراض الاختلاف والانقسام، والانزياح عن السردية التاريخية المؤسسة للهوية الوطنية الفلسطينية، والمرتكزة على النكبة (1948) بإقامة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني، وولادة مشكلة اللاجئين.
هذا لا يعني أن ذلك البرنامج سيتحقق، أو إنه أقرب للتحقق من الدولة الفلسطينية المستقلة، لكن الفكرة أنه طالما لا توجد موازين قوى ولا معطيات دولية وعربية، تسمح لهذا البرنامج أو ذاك أن يتحقق، فالأولى التمسك بالسردية الوطنية الفلسطينية، التي تحفظ وحدة الشعب الفلسطيني، بدل الدخول في متاهة لن تصل إلى شيء، وهو ما حصل.
قد يجدر بي هنا التنويه، ومنعا للالتباس، أو الخلط، إلى أن البرنامج المرحلي، أي برنامج إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، مع حق تقرير المصير، وحق العودة، يختلف تماما عن اتفاق أوسلو (1993)، الذي وقعته القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح، والذي كان موضع انتقاد فيصل، شكلا ومضمونا وممارسة، مع ملاحظة أن ذلك الاتفاق، أو التحول، بطريقة فوقية، وقسرية، وعبر مفاوضات سرية، ناهيك إنه تجاوز قضايا أساسية دفع الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ثمنها باهظا، حتى اليوم، أي بعد ثلاثة عقود، كعدم الحسم في مسألة الاستيطان ومكانة القدس، وتعريف الحدود، وماهية الحل النهائي، إضافة إلى أنه لم يعرف إسرائيل كدولة احتلال ولا الضفة وغزة كأراضي محتلة.
على ذلك، فالسجال هنا، وهو متأخر، ويتضمن كل التقدير والعرفان للراحل الكبير فيصل، إذ المشكلة في الفكر السياسي الفلسطيني كانت، ولا زالت، لا تتوقف على النصوص فقط، وإنما هي ترتبط، بشكل أكبر، بالبنية، أي بطريقة بناء الكيانات الفصائلية الفلسطينية، ونمط العلاقات فيها، إذ هي تتأسس بطريقة بطركية، يتحكم بها الزعيم، أو القائد، أو المكتب السياسي، مع افتقاد للحياة الداخلية، أو للمشاركة السياسية وفق قواعد الديمقراطية، يفاقم من ذلك علاقات الولاء الناجمة عن سيادة العلاقات الزبائنية، في فصائل تستمد قوتها من عدد المتفرغين، الذين يعتمدون في معيشتهم عليها، أي على فصائل هي الأخرى تستمد مواردها ليس من شعبها، وإنما من ارتهانها لهذه الدولة أو تلك.
كما إن مشكلة الحركة الوطنية الفلسطينية، أن قياداتها لا تعطي أهمية للنص، أو للوثائق، ولا تجد ما يلزمها بها، وأنها تنقلب من موقف إلى نقيضه، في حركة وطنية تسودها الروح الشعاراتية والعاطفية، ومشبعة بروح العصبية الفصائلية، وهو أمر لم يغب عن فيصل، وكان موضع انتقاده في كتاباته.
في الإجمال، فإن الفكر السياسي الفلسطيني مدين لفيصل في بحثه الرصين، وفكره النقدي والمسؤول، وروح الوطنية الفلسطينية التي بثها فيه، ولعلي هنا أنصح المهتمين، من الباحثين والسياسيين، بقراءة، أو معاودة قراءة، ما خطه فيصل في هذا المجال، سيما كتابه في "الفكر السياسي الفلسطيني"، إنصافا له وعرفانا بجهده...تحية لذكراه...
ليست ذكريات فقط
ناصر السومي
كدت مرات عديدة أن أرفع سماعة الهاتف لأتبادل الرأي مع فيصل بشأن ما يحدث في أيامنا هذه في غزة، كما جرت العادة عند كل منعطف شخصي أو عام يمر أمامنا. الشعور بالفراغ الذي تركه فيصل يشف عن شريط طويل من ذكريات الأيام التي أمضيناها معا منذ أن تعرفت عليه في دمشق في مطلع سبعينات القرن الماضي. كنا مجموعة من الأصدقاء يتفاعل فيما بينها ما يشبه مختبراً لتبادل الأفكار ولإنتاجها في طرق مختلفة قد تكون سياسية أو فنية كالشعر والرسم والأدب والمسرح، ولكن كانت كلها مغمسة بما يجري حولنا من تفاعلات سياسية وحزبية. القواسم المشتركة المتعددة التي كانت بيننا ظلت بالدرجة الأولى ثقافية، فنية، أدبية وفلسفية ولكن أيضاً تقوى ارتباطنا بسبب شغف معظمنا في الطبخ. المهم في صداقتنا جميعاً هو احترام الرأي الآخر حتى المختلف لأننا لم نكن كلنا جماعة في حزب أو جبهة موحدة رغم أن توجهنا بشكل عام كان يسارياً. كنا منفتحين على العالم وعلى كل ما يقربنا من أفق جوهري للعدالة والمساواة في جميع أوجههما رغم ما كان يحصل من بعض المشاحنات التي لا بد منها بين الحين والآخر ولكن دون أن تترك تلك المشاحنات العابرة أي أثر ذو أهمية على مسيرة لقاءاتنا وحياتنا، بل بالعكس فقد ترسخ الاحترام المتبادل كقاعدة ثابتة. ضم المحيط الذي جمعنا شخصيات ذات أهمية بالغة في الحياة الفنية والثقافية في دمشق في حينها من بينهم الفنان فاتح المدرس والكاتب والقاص سعيد حورانيه والمؤرخ محمد المحفل والشاعر الشعبي حسين حمزة والشاعر والفنان جورج عشي والمخرج المسرحي الفذ فواز الساجر والعالم اللغوي برهان بخاري والصحفي السينمائي بندر عبد الحميد والكاتب المسرحي سعدالله ونوس. قليل من النساء المستقلات كن في خضم كيان المجموعة، أي غير زوجات لهذا أو ذاك، الوجه الأهم بيننا كانت ناديا خضور التي فرضت وجودها ومحبتها على الجميع وتزوجت فيما بعد من سعيد حورانيه. كان هناك في تلك الأيام متسع من الوقت للخوض في جميع مناحي الحياة، ولذلك أنتجت صداقتنا غنى خاصاً يحتاج إلى مساحات كبيرة للخوض فيه. محمد المحفل وسعيد حورانية وفواز الساجر وسعدالله ونوس وفيصل حوراني كانوا ينتمون إلى تيارات مختلفة في الحزب الشيوعي وأما فاتح المدرس وأنا فكنا خارج الأطر الحزبية رغم عدم بعدنا عن طروحات الحزب للعدالة والمساواة. فيصل كان له موقفاً براغماتياً ميزه عن معظمنا، إذ أنه كان ينادي مبكراً بحل الدولتين في فلسطين. فاتح وأنا تحديداً لم نكن مطلقاً مع هذا التوجه رغم أنه كان ينسجم مع الظروف الواقعية والمتاحة بالنسبة للكثيرين. بالنسبة لي المسألة هي قبل كل شيء كانت وما زالت مسألة حق. فلسطين لأهلها ولشعبها ولا يوجد أي سبب لتقاسمها مع الآخرين وخصوصاً إذا كان ذلك بالقوة. اختلافنا العميق حول هذه النقطة لم يسبب أي تصدع في صداقتنا التي قبلت الاختلاف بالرأي منذ البداية. من دمشق انتقلت إلى بيروت ومن ثم إلى باريس ولم تنقطع علاقتنا أبداً. بعدها تزوج فيصل من باولا أبراهام التي كرست الكثير من حياتها من أجل فلسطين وعدالة قضيتها، وسكن فيصل معها في فينا وقد زاراني معاً في باريس عدة مرات، وقد زرتهم بدوري عدة مرات في فينا. ستطول الأيام التي ستوصلنا إلى ما ستكون عليه الأمور في فلسطين لاحقاً ولكن سيظل اجتهاد كل منا مشروعاً سواء أثبتت الأيام صحته أم لا. كم أتمنى أن أعرف رأي فيصل بما يحصل الآن في غزة وفي فلسطين عامة.